بعضنا مازال يحتاج إلى أن نصرخ فى وجهه «إيه لازمة الغتاتة يا أخى؟» تخيل أننى عرفت عنوان بيتك بشكل أو بآخر، وقررت أن ألبد لك أسفل بيتك لأنتظرك كل صباح وأنت تستعد للخروج إلى عملك ليرزقك الله كما يرزق الطير تغدو خِماصاً وتروح بِطاناً، وفور مغادرتك لباب عمارتك أهبُّ أنا بكل غتاتة الدنيا ورخامة الكون لأقول لك «شغل إيه اللى إنت رايحه يا أخى.. إنت خدت إيه من الشغل.. هتستفاد إيه.. هى دى فلوس اللى بتاخدها.. وحتى لو كانت فلوس استفدت إيه بقى.. ما إنت ممكن شركتك تقفل أو تطلع معاش مبكر أو يلفقوا لك بلوة ويودوك فى ستين داهية.. بلاش ده كله.. ممكن دلوقتى تخبطك عربية أو يقع عليك تكييف أو ييجى لك وباء يجيب أجلك»، سأكتفى بهذا القدر من الغتاتة على أمل أن يكون قد وصلك المعنى الذى أرغب فى إيصاله، لم يصلك بعد؟، طيب دعنا نكمل إذن، خلاص، لن أكمل علشان خاطرك، مع أن تعداد الكوارث التى يمكن أن تقع عليك فى بلادنا الحبيبة أمر لا يحتاج إلى مجهود كبير. ما كنت أريد أن أقوله لك بتلك الطريقة الغتيتة، هو محاولة استعطافك أن تعتقنى لوجه الله من ذلك اللون من الغتاتة الذى لا ترضاه لنفسك، ومع ذلك فأنت ترضاه لى، أعنى إذا كنت واحدا من الذين يقرأون ما أكتبه فيبادرون فور انتهائهم منه إلى المسارعة بإرسال رسائل من نوعية «ياعم إنت بتنفخ فى قربة مقطوعة.. دى بلد ما منهاش رجا.. إنت بتتعب روحك على إيه.. مافيش فايدة من الكلام اللى بتقوله.. ريّح نفسك، كان غيرك أشطر»، وما إلى ذلك من الكلام السقيم الذى يظن من يكتبه أنه يلعب دور زرقاء اليمامة التى أحيطت علما ببواطن الأمور، فقرّرَت أن تساعد الحمقى من أمثالى لتوفِّر عليهم مشقة الكتابة ووعثاء التفكير. انتظر لحظة، هل تظن أننى الآن أُملى عليك ما يجب أن تكتبه لى؟، لا سمح الله، هل أتزلف منك طبطبة أو تشجيعا أو مساندة؟، حاشا لله، بالعكس أرجوك أوسعنى معارضة وهجوما واستهزاء وقدحا وذما بل وشتيمة إذا سمحت أخلاقك الكريمة، ولكن أرجوك، كله إلا تكسير المقاديف، شاركنى فيما شئت من آراء أيا كان تطرفها وشططها وحدتها، لكن أرجوك احتفظ فقط لنفسك بآرائك النيرة عن عدم جدوى الكتابة وحتمية خراب مصر، صدقنى لست أطلب منك أن تؤمن مثلى بأن الكتابة مجدية، ولا أن تدرك أن مصر لن تخرب إلا بسبب الذين يعتقدون أن الكتابة نفخ فى قربة مقطوعة وأن الأفضل أن نسلم البلد للفاسدين والظلمة ونستمر نحن فى اللطم والعويل، حاشا لله أن أفرض رأيى عليك، أنا فقط أطلب منك ألا تقف تحت بيتى لتكسر مقاديفى على الصبح، فهل هذا كثير؟ شوف يا سيدى، فى روايته القصيرة المكيرة «أسطورة جبل آغرى» يحكى الكاتب التركى العظيم يشار كمال عن سلطان طاغية طلب من معمارى بارع أن يبنى له سجنا فى قصره، كان المعمارى العبقرى قد جرب قسوة السجن قبل ذلك، فقام كما تروى الأسطورة، بتصميم سجن يوجد فى كل زنازينه ثقب يتيح للسجين أن ينظر من خلاله بحرية وأن يدخل النور إلى زنزانته ليبدد وحشتها، وبعد أن انتهى من بناء القصر اختفى تاركا رسالة للسلطان كتب فيها «من يحاول سد هذه الثقوب سيهدم القصر من أساسه فقد بنيته اعتمادا على ضوئها وستنصب عليه الكوارث ولن ينقذه حسبه ونسبه وطغيانه أبدا». هذه هى الكتابة بالنسبة لى، قد لا تهدم السجن، وقد تدخل صاحبها إلى السجن، لكنها ستظل دائما وأبدا ثقبا فى جدار الصمت، يُبقى حلم الحرية حيا لدى المساجين، ستظل النور الأسطورى الذى يبدد وحشة الزنازين ويقهر على الدوام كل طواغيت الأرض، فإذا كنت عاجزا عن توسيع ثقبك بيديك، فلا تستكثر على أمثالى محاولة توسيعه، لعلنا يوما نخرج من سجن العجز إلى دنيا الله، ويا سيدى إذا كان لديك فائض من يأس فابخل به علينا، وايأس أمام باب بيتك.