كانت رحلة الصائم طوال شهر رمضان رحلة بعيدة المدى فى بعث الروح، وتهذيب الخلق، وتعويد الصبر، وتعليم القناعة، والرضا، وتمرين المسلم على المنافسة فى فعل الخيرات، والطاعات، وتدريبه على الإكثار من العبادات حتى يخرج المؤمن من شهر رمضان عبدا يحظى برعاية الله ويسعد بمحبته ورضوانه. روى البخارى: أن الله تبارك وتعالى يقول فى الحديث القدسى:" ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، ولئن سألنى لأعطيته، ولئن استعاذ بى لأعيذنه". إن شهر رمضان كان موسما لزيادة التقوى، والخشوع، والخشية، وصحوة الضمير، ويقظة النفس، ومراقبة الله. من وفق إليه، وأعطى خيره، فقد أعطى الخير كله، ومن خذل فيه وحرم خيره، فقد حرم. والمسلم الذى شحن جنانه بالطاعات، واستمد من الصيام والقيام طاقة دفع، وبنى كيانه الشخصى، والسلوكى والاجتماعى على وحى القرآن وهداه، إن هو إلا إنسان سوى، قوى الإرادة، صلب العزيمة، رابط الجأش، وقد كف جوارحه وعزل عن الناس شره، وسلم الناس من لسانه ويده. ولقد عاش المسلمون الأولون فى جوار رمضان أحسن جوار، فأحسنوا وأكرموا جواره، واقتبسوا من أنواره، يعملون الصالحات ويجاهدون فى سبيل الله. وإذا خرج عنهم شهر الصيام ظلوا على طاعة الله، وداموا على عبادته، لأن رمضان أثر فى أعماق قلوبهم، وتفاعل فى نفوسهم، وقد تعودت جوارحهم عمل الصالحات وفعل الخيرات. ولذلك قال العلماء: علامة قبول الصوم عند الله: أن يكون العبد بعد الصوم، وبعد خروج رمضان أهدى حالا، وأحسن قيلا، وأكثر عبادة وتقوى. فإن طاعة الله فى رمضان كطاعته فى غير رمضان، وعبادته فى يوم الصوم كعبادته فى غير أيام الصوم، لأنك تعبد الله الحى القيوم الذى لا تأخذه سنة ولا نوم، والباقى على الدوام. فطوبى لعبد ذاق حلاوة العبادة، وطعم الإيمان، وتمتع بطاعة الرحمن، فتمسك بحبل التقوى، وظل مقبلا على الطاعة. قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: للطاعة ضياء فى الوجه، ونور فى القلب، ومحبة فى قلوب الخلق، وقرب من الرب، وسعة فى الرزق. قال تعالى فى سورة طه " وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّىٰ (76) (طه: 75-76) وقال تعالى فى سورة الطلاق: " فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) (الطلاق: 10-11). أخى القارئ: إن صوم رمضان المبارك نعمة كبرى أنعم الله سبحانه وتعالى بهاعلى المؤمنين، وليس هناك من جميل أسدى إلى البشر بأعظم من جميل الله، ولا نعمة أبر بالمؤنين من نعمة الله تعالى، سيما فيما يمس وجود النفس وكيانها وذاتها، وفيما يكون به عونها على هواجسها، وحكمة على تصرفاتها، وفيما يكون به صقلها فى مقام الحق، وثباتها على المبدأ، ورسوخ قدمها فى مجال الفضيلة. لا يعصف بها إعصار، ولا تدمدمها غفلة. إن صوم شهر رمضان مدرسة تخرج منها رجال ونساء قاوموا فى أنفسهم كل شهوة، وفى مجتمعاتهم كل انحراف، فسعدت بهم الحياة، ولقنوها دروسا حية فى النقاء الطهر، ومراقبة الله الكبير المتعال.