انتظرته طويلا ولا زالت ، كان حياتها ، ألمها وسعادتها ، فرحها وحزنها ، روحها وجسدها الذى تزينه وتطيبه بالبخور والعطور، مذ غادرها ابوه او غادرته لم يتبقى لها فى دنياها غيره وبنت صغيرة هى اخته، كان املها الذى سيعوضها عن كل الحرمان الذى اجترعته . كانت تراقبه وهو يمشى ، وعندما يجلس كانت تسرع لتكمل اعمال البيت لترجع وتنظر اليه ، احلام واحلام تجول فى خاطرها ، ستزوجه من اجمل البنات ، ليس من هذه المنطقة وانما ستذهب بعيدا لتختار له عروسا جميلة يفرح بها فليس هنالك ما هو اهم من فرحته . كبر وكبرت احلامها وخوفها معه ، اخذ يعمل ليعيلها واخته الصغيرة الوحيدة ، وهى لا تريده ان يعمل ويتعب نفسه ، كانت تريده ان يعمل بالقرب منها لانها لا تحتمل بعده عنها. كان ولدا جميلا ، حسن الصورة ، وذكيا ، شابا مندفعا يعشق الرياضة ويتابع بشغف مباريات كرة القدم من على شاشة تلفازهم الصغيرة ، وكانت فخورة مزهوة به ، تخاف عليه من عين الحساد . هبت رياح الحرب ولانه رجل من بقية الرجال اشترك فيها ، كانت شعارات الحرب انذاك لا تعطى لاحد مبررا كى يتخلف عنها ، ان القوانين تحتم عليه الذهاب الى ساحة الحرب ، و رجولته لا تسمح له ان يكون متخلفا عن غيره، أما هى فخوفها والمها كبير. كانت عودته من الحرب عودة للروح اليها وعندما يحين وقت ذهابه تجدها حزينة منكسرة خائفة، ترتجى مرور الايام ليعود ولدها بين احضانها. ودعته واللوعة تعتصرها وهو يشجعها ، وعدها ان يعود اليها وان لا شيء تخاف منه ، انهم بعيدون عن ساحة المعركة ولاخوف عليه ، ودعته على ان يفى بوعده فيعود . مرت الايام والشهور والسنين ولم يعد ، اخبروها انه اسير لدى عدوهم وسيعود ، وضعت الحرب اوزارها ولم يعد ، تصالح طرفا الحرب وتبادلا الاسرى وهو لم يعد . حتى رفات القتلى اعيدت وهو لم يعد . كانت لا تريد من الحياة شيئا سوى ان يعود اليها ولدها الصغير ، انتظرت اياما وليال وشهور وسنين ليفى بوعده ويعود ، ولكن لا اثر له . مرت حياتها وهى تنتظر عودته ، كبرت وصارت تنتظر الموت ، صار خياله هو نفسها الذى تتنفسه ، اخذت تشعر بالخوف من ان يكون حيا فياتى بعد موتها ولايجدها ، جاءت ساعة موتها فتمنت ان يكون ميتا قبلها فلا تنتظره مرة اخرى. ماتت فدفنوها وكانت ابنتها الوحيدة التى بقيت لفترة عند قبرها بعد ان رحل الجميع ، بكت وحدتها ، ثم غادرت تلحق بهم. لم تبتعد كثيرا ، التفتت لتودع امها للمرة الاخيرة ، نظرت الى القبر، كان هناك شاب جميل يقف عند الراس يقرأ الفاتحة.