مما لاشك فيه أن اعتداء اسرائيل على قافلة فك الحصار عن غزة قد أوجد أزمة كبيرة بين تركيا وإسرائيل، خاصة وأن الاعتداء على السفينة التركية ليس مجرد حدث عادي في تاريخ العلاقة بين الدولتيْن إذ أن "أسطول الحرية"، الذي انطلق لكسْر الحصار عن غزّة لم يكن مجرّد تجمّع شعبي دولي مُناهض لسياسات الاحتلال الإسرائيلية، بل كان الأتراك عماده ويشكِّلون غالبية أفراده وسفينته الكُبرى "مرمرة الزرقاء" كانت تركية أيضا .. فلسفن كانت مدنية والمشاركون على متنِها مدنيون عُزّل وكانت متواجدة في المياه الدولية عندما اعتدى عليها الكوماندوز الإسرائيلي بحرا وجوا ، وكانت النتيجة أن غالبية القتلى والجرحى الذين سقطوا في الهجوم هُم من الأتراك. ويرى مراقبون سياسيون أنه كان واضحا أن الاعتداء يستهدِف تركيا بالذّات، ويبدو أنه لم يتّصل فقط بالعلاقات التركية الإسرائيلية، وإذا كان ساعي البريد في هذه الحادثة إسرائيلي الهوية، فإن الرسالة التي حملها كانت دولية المصدر، حسب تقديرهم. كما أن الأمر قد يكون زاد عن حده لدى بعض الأوساط الغربية من "قصة النجاح" التركية الأخيرة في المنطقة والعالم منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في نهاية عام 2002، ويذهب البعض إلى حد القول بأنه حتى لو كانت تركيا لا تزال متمسكة بالتوجهات الغربية السابقة، فإنها كانت ستتلقى مثل هذه الرسالة الدموية، لأن الأمر يتّصل أيضا بمسألة جوهرية أخرى ترتبط بتقسيم القوى الكبرى للعالم. لقد برز النجاح التركي جلِيا في الآونة الأخيرة مع توقيع اتفاق طهران النووي، الذي كان لتركيا دور أساسي في التوصل إليه، والذي اعتُبر خرقا كبيرا في جِدار الأزمة النووية المزمنة بين الغرب وإيران. وفي تلك المناسبة، ظهرت تركيا دولة أكبر من حجمها وتسعى للعب دور أكبر من أن تتحمّله القِوى المُهيمنة على النظام الدولي الجديد، لذا، لم يكن غريبا أن يقول رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان، "إن الغرب يغار من النجاح التركي"، وهو ما قد يفسر ردّة الفعل الغربية، التي جاءت مباشرة بعد التوصل إلى الإتفاق وتمثلت في الدعوة إلى فرض عقوبات على طهران في سلوك غريب تُجاه اتفاق أقل ما يقال فيه أنه فتح كوة للأمل في حلّ الملف النووي الإيراني بصورة سِلمية وتجنيب المنطقة والعالم الحروب والتوترات، وهو ما كانت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تدعو إليه. بل إن تركيا والبرازيل (شريكتها في الإتفاق ) اضطرتا إلى الكشف عن مضمون رسالة كان اوباما قد بعث بها إلى كل من اردوغان ولولا داسيلفا أظهرت أن الشروط التي حدّدها رئيس الولاياتالمتحدة في رسالته، قد تمّ الإلتزام بها في الإتفاق الذي تم التوقيع عليه في طهران. لقد بدا واضحا أن بعض الدول الكبرى لم تكن تتوقّع ولا تريد هذا النجاح التركي، كما أنها لم تكن ترغب في أن تقتحم دول جديدة نادي الدول الكُبرى المغلق. ولإسرائيل أيضا غَرض مُباشر من استهداف تركيا، حيث تخشى، في حال قَبول العالم لاتفاق طهران، أن تكون هي الهدف الموالي في جهود أنقرة لنَزع السِّلاح النووي نهائيا من منطقة الشرق الأوسط برمتها. ويؤكد خبراء السياسة في الشرق الأوسط أن إسرائيل كانت على الدوام الأداة الأساسية لتنفيذ السياسات الغربية والاستعمارية في المنطقة، وهي سياسات لا تعرف الرحمة مع أحد. وينوهون إلى أن تركيا، التي كانت رأس حربة حلف شمال الأطلسي والغرب ضدّ الكُتلة الشيوعية والدول العربية المُعادية لإسرائيل على مدى أكثر من نصف قرن، لم يحفظ لها أحد ذلك الدور المهِم جدا حينها ولا هذا الجميل، وعند أول فرصة، وقع الانقضاض عليها فجر اليوم الأخير من شهر مايو 2010 وبأسوأ طريقة عدوانية. ويرى البعض أن مضمون الرسالة الإسرائيلية - الدولية وصل إلى تركيا، لكن السؤال عمّا اذا كانت أنقرة ستلتزم بمفرداتها أم أنها ستتمرّد عليها وتُواصل مسِيرتها باتجاه أن تصبح قوة إقليمية عظمى، بل قوة "متوسطة القوة" في الطريق لتكون قوة كبرى في يوم من الأيام؟ ومن المؤكد أن الردّ التركي على إسرائيل سيأتي ، إذ لا يمكن لدولة كبيرة مثل تركيا أن تلعق جرحها وكأن شيئا لم يكن ، وما صدر حتى الآن من إجراءات تركية، كان خجولا، لكنه كان فوريا وأوليا ليس إلا ، فالتحدي القائم أمام اردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية كبير جدا، في الداخل والخارج. ويبدو أن تركيا لن تتخلى عن أسس سياستها الجديدة في تعدّد البُعد ونسج أفضل العلاقات مع الجميع والقيام بدور مبادر لحلّ الأزمات الإقليمية، ومنها دور الوسيط، وبالتالي، فإن السعْي لتكون تركيا صاحِبة دور واسع في مُحيطها وفي العالم سيستمِر، لأنها بمثل هذه السياسة بلغت هذه المرتبة من التأثير والثِّقل، وهي تدرك أنها ستواجه عراقيل، لكنها تعرف أكثر أن الدور يُنتَزِع ، ولو كان خلاف ذلك، لما تعرّضت تركيا لكل هذه المضايقات ولهذا العدوان الذى يعتبره البعض قرصنة في عرض البحر.
ومن المؤكد أن هذا العدوان على تركيا سيجعلها أكثر دفاعا عن القضية الفلسطينية وتصميما على رفع الحصار المفروض على قطاع غزة وتمسكا بالتعاون مع العالميْن العربي والإسلامي، هذا التعاون الذي أكسبها وسهّل عليها الظهور كقوة ذات ثقل فى المنطقة