الإسلام دين اتخذه الله للبشرية جمعاء، دعا إلى حُسن الخطاب، وعني عناية كبيرة بموضوع الكلام وأسلوب أدائه؛ لأن الكلام الصادر عن إنسان ما يشير إلى عقله، وطبيعة خلقه ونوع تربيته؛ ولأن لغة الكلام عند المجتمعات هي في الحقيقة لغة السلوك، وهي مقياس مستواها العام؛ حيث يحظى الحوار بعناية هامة في الشريعة الإسلامية، وتمت الدعوة والتطبيق له باعتباره مسارا جيدا من الخطاب، ويتجلى ذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية. ومن الطبيعي أن يختلف الناس في مختلف العصور والأمصار، فهذه سنَّة الله في خلقه، فإنهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطبائعهم ومُدركاتهم ومعارفهم وعقولهم، وكل ذلك آية من آيات الله، نبَّه عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ...}(الروم:22). ولو شاء الله جعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة.. لا رأي لهم فيه ولا اختيار.. مفطورين على اعتقاد الحقِّ والطاعة؛ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لا يقع بينهم اختلاف ولا تنازع، ولكنّ الله خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا مُلْهَمين، عاملين بالاختيار، وترجيح بعض المُمْكنات المتعارضات على بعض؛ لا مجبورين ولا مضطرين، وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار. وحين يبدأ الحوار والحديث من نقطة اتفاق يختلف الأمر عنه حينما يبدأ من نقطة تباين واختلاف، مما يقود الأطراف المتحاورة إلى التنازع والتناقض فيما بينها، وحينئذٍ لابد من مراعاة أصول الحوار، وآدابه، وخاصة آدابه التي أقرها الله سبحانه وتعالى، التي كانت منهجا لرسله إلى العالمين. ومن أهم ما يجب اتّباعه من آداب الحوار: التزام الأطراف المتحاورة بالقول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، كما ينبغي في الحوار التأكد على الاحترام المتبادل بين الأطراف، وإعطاء كل ذي حق حقه، والاعتراف بمنزلته ومقامه، فيخاطب بالعبارات اللائقة، والألقاب المستحقة، والأساليب المهذبة. فلعل ما تعرض إليه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر بعد موقفه من الطالبة المنتقبة وكلامه الذي وجهه إليها، وكلامه حول النقاب، من هجوم صاخب من قبل وسائل الإعلام شيء مؤسف حقا بالنسبة لنخبة من الكُتاب والإعلاميين والمثقفين لديهم ما يمكنهم أن يؤثروا به في المجتمع، بآرائهم وأقوالهم واتجاهاتهم الفكرية، وكأنهم تناسوا ما يجب التزامه في دوائر الحوار والمناقشة التي يفتعلونها في برامجهم التليفزيونية، وتدافعوا يهاجمون طنطاوي ويوجهون إليه الاتهامات والانتقادات اللاذعة غير اللائقة. فأنا لا أدافع عن شيخ الأزهر ولا أؤيد مَنْ يهاجمونه، ولعل السؤال لمن يجادل ومن يخالف ومن يعترض الالتزام بآداب الحوار، فقد انتشر الإسلام بالقول الحسن والحوار القائم على اللباقة والاحترام الهادف لإظهار الحق، بالأدلة والبراهين، لا بالتشدد والتعصب للآراء، والهجوم بتوجيه الانتقادات وكيل الاتهامات، دون معرفة الأسباب والعلل. ومن المستحسن أن يكون الحوار هادئًا لا ترفُّع فيه ولا تعالٍ؛ وذلك لأن جو المحاورة يتطلب الهدوء، والحوار الهادئ الذي يقابل السيئة بالحسنة، ويقلب الهياج إلى وداعة، والغضب إلى سكينة، والتبجح إلى حياء، ونبرة هادئة وسيمة صائبة في وجه هائج غاضب متبجح "مفلوت" الزمام، ولو قوبل بمثل فعله لازداد هياجًا وغضبًا وتبجحًا ومرودًا وخلع حياءه نهائيًا، وأفلت زمامه وأخذته العزة بالإثم. وأكرر.. أنا لا أدافع عن شيخ الأزهر كشخص ولكن أدافع عن منصب ومكانة هاجمها كل جاهل وحاقد، كما دخل المنصب في انتقادات سياسية بحتة لا تمت للدين بصلة، ولا أدري لمصلحة من يتم تشويه كرسي جلس عليه علماء وشيوخ أجلاء أمثال الشيخ شلتوت وجاد الحق، هل لأنه يمثل رمزا للإسلام أم أن من يمثل شخصًا غير مرغوب فيه. إن هذه الجرأة على الرموز الإسلامية في قضايا خلافية إنما هي سبب الويلات والبلاء الذي يلاحق الأمة بأجمعها، فلم يعد هناك مرجع ديني يثق فيه العوام بل أصبحوا يتجرءون على الرموز الدينية والعلمية وكأنهم يعلمون كل الحقائق والخفايا عنهم، ولم يبق عالم ديني أو غيره بمنأى عن ألسنة حادة ليس لها سوى الغيبة والنميمة والتفوه بأقذع الألفاظ، بل تساووا مع الراقصين والراقصات، فهل هذا يعقل، وهل يختلف معي عاقل في أن الهجوم على شيخ الأزهر إنما هو هجوم على رمز الإسلام الأول في قضايا خلافية وليست عقائدية أيا كان اسم شيخ الأزهر؟! [email protected]