WWW.DRIBRAHIMGUIDER.COM هناك ارتباط كبير جدًّا بين الحقوق والواجبات، وقد يكون الترابط نسبيًّا من حيث الحجم في بعض الأحيان، كما أنه يتفاوت باختلاف المهام والمواقع أيضًا، ولكن مبدأ الترابط في المفهوم الكلي للواجبات والحقوق مؤكدٌ، ولا تشوبه أية شكوك. إن عدم الالتزام بأداء بعض واجباتنا يشكل حتمًا مساسًا بحقوق الآخرين، وأعني هنا الواجبات بمختلف أشكالها وأنواعها، سواء كانت واجباتنا الإنسانية تجاه الأسرة والوالدين أو واجباتنا الاجتماعية تجاه المجتمع بمختلف أطيافه: كجيراننا، أو من تربطنا بهم علاقات عمل، أو علاقات معرفة فرضتها ظروف التعايش داخل المجتمع.. إن الواجبات الاجتماعية الإنسانية لها أهميتها الكبرى، ويمثل الالتزام بها مقياسًا مهمًّا لرقي المجتمع وحفاظه على حقوق الآخرين، وإن القرآن الكريم وسنة نبينا محمد وسيرته الحميدة- بدون شك- بها الكثير من الأمثلة الواقية، فهي تحثنا على مجموعة من الواجبات تمثل- في حقيقة الأمر- سلوكًا اجتماعيًّا في: احترام الآخرين، وتقديم العون لهم ومساعدتهم، ففي الحديث الشريف عن النبي: "وَاللَّهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ ما كان الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ"، رواه مسلم، وتقدير الصغير للكبير؛ لحديث: "ليس مِنَّا من لم يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا" رواه ابن حبان في "صحيحه"، واحترام ولي الأمر في الخير: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ"، رواه البخاري. ومراعاة حقوق الجار كقوله صلى الله عليه وسلم: " ما زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حتى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ" رواه البخاري، علاوة على حقوق الصديق التي ما إن أحصيناها في السنة تعدت المجلدات، فها هو عمر يوصي في وقفه الذي أوقفه في سَبِيلِ اللَّهِ وفي الرِّقَابِ وَالْمَسَاكِينِ وَالضَّيْفِ وابن السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى، وأن يأكل من ولي الوقف ويؤكل صديقه بالمعروف، كما جاء في "صحيح البخاري"، وهناك واجب أصيل في الدين وهو إتقان العمل، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"، رواه الطبراني، وهو تأكيد لمبدأ العمل في الإسلام الذي يشهده الله تعالى ورسوله والمؤمنون: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. إن هذه الواجبات الإنسانية الاجتماعية هي في حقيقة الأمر تمثل النضج الحقيقى للمجتمع وسموه أخلاقيًّا، وأول انعكاساتها أن يكون المجتمع- بدون أدنى شك- مجتمعًا يحترم الحقوق الإنسانية لأفراده وكل أطيافه، وفئاته ملتزمة بأداء واجباتهم الإنسانية والاجتماعية، وبالتالي يرغمون نظام الحكم على احترامهم واحترام توجهاتهم تجاه بعضهم البعض، وكذلك فإن المسئولين عن إدارة شئون البلاد في مجتمع كهذا المجتمع يكونون نتاجًا لإفرازاته المشبعة بالقيم الإنسانية الراقية، فلن يتجاوزوا أو يمارسوا أي شكل من أشكال الاختراق لحقوق أفراد مجتمعهم، ولن يمارسوا أي شكل من أشكال العلاقات الظالمة ضدهم؛ لأنهم تربوا وتمت تنشئتهم على مبادئ إتقان الواجبات واحترام حقوق الغير، بل إنهم لا يسمحون أبدًا لأيٍّ مَن كان أن يمارس أي شكل من أشكال الإهدار لهذه الحقوق. ومن الأمثلة الكثيرة التي تبين لنا الارتباط بين الإخلال أو الالتزام بتنفيذ الواجبات، وعلاقة ذلك بالمحافظة على حقوق الآخرين واحترامها وعدم الإخلال بها: لنا في عدم احترام الموظف لواجبه العملي اليومي وإصدار العدد المحدد له يوميًّا على سبيل المثال من وثائق تخص منافع المواطنين ومصالحهم، سواء كان هذا الموظف في: السجل المدني، أو في أقسام التراخيص المختلفة بكافة أنواعها وأشكالها، أو في إدارة الجمارك، وغير ذلك من الإدارات التي لها علاقة بمصالح الناس الاقتصادية والاجتماعية والخدمية المختلفة، فعندما لا يقوم هذا الموظف بواجبه حسب النظم وحسب ما هو محدد له، فإنه حتمًا سيضر بمصلحة الأفراد أصحاب الحاجة لهذه المعاملات، مما يفقدهم حقهم الذي يكفله لهم القانون والعرف، وتكون عملية المساس هذه أعظم تاثيرًا وحساسية، وأشد الظلم وأوقعه عندما يكون التهاون في أداء الواجبات في المرافق المسئولة عن حماية الأمن وإحقاق الحق، وحماية الفرد من المنحرفين في المجتمع مثل: مراكز الشرطة، والحرس البلدي، وأجهزة الأمن المختلفة، والنيابات والمحاكم. إن تهاون الشرطي- وهو أول درجات سلم حماية الأفراد وإحقاق الحق وتطبيق العدالة وتجسيد النظام قولًا وفعلًا داخل المجتمع- في أداء واجبه لا يخل فقط بحقوق الآخرين، بل يسهم إسهاما مباشرًا في إفساد المجتمع. فما بالُنا اليوم نرى تعاملا رديئًا إلى أبعد حد، وسوءَ تصرف يرقى في بعض الأحيان إلى مصاف التصرف غير الإنساني من قِبَل بعض رجال الأمن ومسئولي الضبط القضائي بمختلف مسمياتهم، بل تصل الأمور إلى أن البعض منهم يمارس تعاطي الرذيلة أثناء عمله وفي نوبته الأمنية، بدءًا من التدخين العادي أو المخلوط بالحشيش إلى شرب الخمر والتحرش بالنساء، بل يتجاوز الأمر إلى استغلال المركبات الأمنية في ممارسة الرذيلة والاتجار بالممنوعات، إن مثل هذه الأفعال تحتاج إلى وقفة جادة.. جادة لا هوادة ولا مهادنة فيها، حتى ولو كان ثمنها التضحية بهؤلاء وفصل كل مَن يقوم بهذا العمل، بل حتى لو أشيع عليه ذلك دون دليل قاطع مادي؛ لأن الأمر يحتاج إلى حزم في هذا الأمر، وأن يتم تطهير كافة أجهزة الأمن من كل المنحرفين وغير الملتزمين أخلاقيًّا واجتماعيًّا، وأنصح هنا بإجراءات عمليه فورية، منها: أولا: الإعلان عن رقم هاتف خاص بالبلاغات، يستعمله كل مواطن يتعرض إلى أي شكل من أشكال الظلم والتحرش من قبل رجال الضبط القضائي، ويكون هذا الهاتف موصلًا بجهاز تفتيش يكون لحماية الناس من المنحرفين في الأمن مهما كانت رتبتهم، ويُخْتَار لهذا الجهاز أناس يخافون الله، ويحققون بجدية في كل ما يصل إليهم من بلاغات حتى وإن كانت كيدية. الشيء الثاني: لابد لرجال الأمن الذين لهم أزياء رسمية يرتدونها أن يكون موضحًا على صدره اسمُه، وكذلك رجال الأمن الآخرين تكون لهم بطاقات محددة الشكل والتصميم، يعلن عنها في كافة وسائل الإعلام، ويلزمون بإبرازها للمواطنين قبل البدء حتى في الحديث معهم. وأنصح أيضا كبرنامج وقائي بضرورة حسن الانتقاء لرجال الأمن، وإجراء المقابلات لهم التي لا تركز فقط على انتمائهم للنظام وخلو اسم عائلاتهم من المعارضين، كما يحدث في أجهزة الوطن العربي الأمنية، بل يتم التركيز على مدى الالتزام الأخلاقي والديني وسلوكياته في مقر سكناه، والتحري عنه جيدًا، ثم في فترة الإعداد والتدريب يجب التركيز على حقنهم بحقن علمية في العلاقات الإنسانية من خلال متخصصين في علوم العلاقات الإنسانية وعلماء الدين، فيقدمون لهم الدروس اللازمة في سلوكيات التعامل مع الآخرين وإتقان أداء الواجب، ومن لا يتجاوز هذه الاختبارات بنجاح لا يتم قبوله مهما كانت قدراته الأخرى. كما يجب أن تقدم لهم معلومات كاملة حول طرق وسبل التعامل مع المنحرفين والمجرمين، حسب الأصول الإنسانية والحقوق القانونية، مع التأكيد على التفريق بين هؤلاء وبقية المواطنين الأسوياء الذين يحتاجون إلى حماية أمنية أو يلجئون للأمن لحمايتهم. ويجب أيضًا أن يعي رجال الشرطة والأمن جيدًا أن تجاوزهم أو إهمالهم في أداء واجبهم يعرضهم للفصل، وهذا مهم جدًّا، ويجب أن ينفذ بشدة وبدون هوادة إذا ثبت التجاوز، خاصة إذا كان مصحوبًا بتلقي الرشوة من المواطنين أو الأجانب المقيمين، فيكون الفصل نهائيًّا من العمل، إضافة إلى مقاضاته بتهمة الإخلال بالواجب وتلقي الرشوة، وأن يكون النظر في هذه القضايا أمام "القضاء المستعجل"، ولا يسمح فيها بأي شكل من الأشكال بأي إجراء تصالحي قبلي أو اجتماعي. وما ينطبق على الشرطة ينطبق بصورة أكبر وأدق على رجال النيابات ورجال القضاء؛ لأن ما يدور من عدم اكتراث وإهمال في أداء الواجب بأروقة النيابات وعدم تحري الدقة والاهتمام، وإعطاء ملفات القضايا الوقت الكافي للدراسة والفحص والبحث عن الحقيقة- هو طامة كبرى، لأنه يؤدي بشكل مباشر إلى المساس بحقوق الناس، فَكَمْ مِن حكمٍ صدر بدون أسانيد قانونية دامغة نتيجة الجهل وعدم الاهتمام والانحراف، وكم من حكم منح حقوقًا ومكاسب للآخرين ليس لهم حق فيها، وكثرة التلاعب في هذه المواضيع بقصد وعمد أو بدون قصد إنما هو نتاج لعدم الكفاءة، وأداء الواجب بالشكل السليم، مما يعطي انعكاسات سلبية قد تصل إلى أن يختل إيمان وولاء المواطن المتضرر للوطن. والحقيقة أن النيابات والمحاكم تحتاج إلى العناية بتوفير الإمكانيات والتسهيلات وتقديم الدوريات القانونية، والدورات التنشيطية لرجال القضاء والنيابات وإنشاء معهد متخصص لذلك، إضافة إلى ضرورة الاهتمام بهم من حيث رفع مستوى معيشتهم وتوفير حاجاتهم الضرورية ليشعروا بالاستقرار والأمان لهم ولأسرهم؛ وليتفرغوا لصون الحقوق وحماية الموطنين وتنفيذ العدالة؛ لأن مهمتهم مهمة سامية، فيجب أن يتكاتف الجميع من أجل توفير الوضع النفسي والاقتصادي والاجتماعي لهم؛ ليتمكنوا من أداء ما هو منوط بهم من واجبات على أحسن وجه. وإذا كان التركيز هنا على حقيقة مهمة، وهي أن إهمال الواجبات في قطاع الأمن والعدل يسبب خرقًا واضحًا في تحقيق العدل والمساوة بين الناس، فإن إهمال الواجبات في مجال التعليم والتربية يعطي انعكاسًا أكثر ضررًا على المجتمع وأفراده، قد لا نشعر به وقتَ حدوثه؛ ولكن نتائجه تظهر بعد سنوات، حيث نجد أنفسنا أمام جيل جاهل أو أنصاف متعلمين، كما يحدث الآن، فالعديد من الخريجين لا يتقنون الحديث بطلاقة، ولا يستطيعون أن يكتبوا رسالة بدون أخطاء إملائية، إن التهاون في أداء الواجبات في العملية التعليمية يعد مشكلة حقيقية تمس حقوق جيل كامل، وتضرب في العمق مستقبل المجتمع. أعتقد أنه من المهم جدًّا في هذا السياق أن أشير إلى انعكاسات الإهمال في أداء الواجبات في قطاع الرعاية الصحية بكافة فروعه ومجالاته، وتعمدت أن أتطرق إليها في نهاية المقال لأهميتها؛ ولأن انعكاسات الإهمال فيها لا تؤدي إلى خرق في الحقوق فقط، بل تؤدي إلى فَقْد الحياة التي أُوكِل لهذا القطاع المحافظة عليها، وكثير من الناس قد يدفعون حياتهم ثمنًا لهذا الإهمال، وفي بعض الأحيان يصابون بمرض مزمن أو عاهة مستديمة. حقيقة إن ما يجري من إهمال للوجبات في القطاع الصحي شيء مخزٍ جدًّا؛ لأنه يحدث رغم كل ما كُتب عليه من تقارير، ورغم كل المناقشات حيال هذا الموضوع المهم، ورغم التعليمات المستمرة من مختلف القيادات المجتمعية، ورغم المخصصات المالية، إلا أن الوضع للأسف في مرافقنا الصحية مازال سيئًا، والشاهد على ذلك رحلات الخطوط الجوية من وإلى تونس والأردن ومصر، وما تنقله هذه الرحلات من مرضى يذهبون للعلاج والكشف في هذه الدول الصديقة، التي يشكو سكانها من قصور في الخدمات الصحية قياسًا بأوربا، ولكنها تظل أفضل كثيرًا مما هو موجود لدينا. نحن للأسف أمام منظومة صحية يرتفع فيها الإهمال والفساد والتسيُّب والاستخفاف بأرواح البشر، وللأسف الشديد يتعامل معها المسئولون عن القطاع بطريقة واحدة، وهي التنصُّل من المسئولية وإلقاؤها على أكتاف الآخرين، ويردد كل منهم العبارة نفسها: "إحنا وارثين تركة ثقيلة، والإمكانيات محدودة للغاية!!". ونحن نتعجب من هذا القول، فعندما يعلن عن مخصصات الصحة في الميزانية العامة للدولة ويتساءل المواطن مادامت الخدمات "تعبانة" هكذا، ولا توجد إمكانيات فأين تصرف هذه الاموال؟ والحقيقة المرة، ويلٌ للمريض في بلادنا، سواء كان فقيرًا أو غنيًّا، فهو لا يشعر بالأمان الصحي، بل ما نشعر به هو العكس تماما. ورغم الأعداد الكبيرة من الأطباء الوطنيين، فإن البعض منهم للأسف لا يتقن فن المهنة، خاصة فن التعامل مع المرضى، ولا يراعي آداب مهنته، فيسود الإهمال في أداء الواجبات في قطاع الرعاية الصحية السريرية بالذات، ويصل إلى درجة الفوضى، وأسرد هنا مثلا: ففي مدينة بنغازى هناك قرار أو تعليمات لا أعلم مصدرها توزع هذه التعليمات عملية قبول المرضى على المستشفيات حسب الأيام، يعني أن من يمرض مرضًا فجائيًّا ليلا، يقال له عندما يلجأ إلى أقرب مستشفى من سكناه: "إحنا متأسفين، اليوم مش يومنا، اليوم يوم المستشفى الفلاني".. عجب.. عجب!! ويهرول الرفاق بمريضهم إلى المستشفى الآخر البعيد، والمعروف أنه في الحالات العاجلة يلعب الوقت دورًا كبيرًا في إنقاظ حياة المريض، وفي هذا الإطار حدثت روايات وقصص كثيرة يحكيها كل يوم سكان بنغازى. أليس المنطق والأصول أن يكون في كل مستشفى استقبال للحالات الطارئة، وحتى إن لم يدخلها المريض، فعلى الأقل يقدم لها العلاجات والإسعافات الأولية الضرورية، ثم ينقلونها بمعرفتهم وبسيارة إسعاف ورفقة طبية إلى المستشفى الذي عليه الدور إذا كان الأمر لابد منه. حياة الناس واحترام حقوقهم ليست لعبة في أيديكم، أقولها لكل من يخل بأداء واجبه مهما كان موقعه، وإذا غفل عليكم الراعي في الدنيا وفَلتُّم من العقاب، فهناك من لا يغفل، وسيكون حسابه لكم يوم القيامة عسيرًا.