إنطلاقا من دور رابطة الجامعات الإسلامية في مواجهة مشكلات الأمة والسعي لإيجاد الحلول لها فقد تدارست الأحوال الصعبة التي تمر بها مصر بعد ثورة 25 يناير العظيمة 2011م، حيث تخلصت البلاد من حكم جائر جثم على صدرها أكثر من ثلاثة عقود، وتريد الآن أن تلملم جراحها وأن تستعيد قوتها وبسمتها وأن تستغل القدرات الكامنة في رجال هذا الشعب البواسل. وكثير من حكماء الأمة وأساتذة الجامعات قد قدروا أهمية الدعوة للمصالحة بين مختلف فئات الشعب وإنهاء الصراعات التي اشتعلت منذ قيام الثورة وحتى الآن، حيث شهدت مصر أحداثا شديدة البأس تضمنت احتجاجات واعتصامات، وفوضى عارمة في كل مكان، وانطلاق البلطجة والعنف الذي أصاب الأبرياء ومرافق الدولة، وأدى إلى انهيار النظام والأمن، وفقدان الثقة بين الحكومات والشعب. ورغبة من رابطة الجامعات الإسلامية لوضع حد لهذا الصخب والعدوان والبلطجة، فقد رأت أن تصدر هذه الوثيقة تحت مسمى (وثيقة الجامعات الإسلامية للتصالح بين مختلف فئات الشعب المصري)، وتتضمن: أولاً/ المبادئ الرئيسية للوثيقة: • المبدأ الأول: مبدأ التصالح بين مختلف قوى الشعب: لقد قاسى شعبنا المصري الويلات من جراء النظام البائد وأعوانه وتابعيه, ولذلك فإنه لا يمكن السماح باستمرار الصراع بين شراذم أعوان الطاغية وأبناء شعبنا الشرفاء, وإنما يجب وضع نهاية لهذا الصراع بإرساء أسس التصالح بين مختلف قوى الشعب على أساس ما يؤكد عليه الإسلام من الصلح باعتباره خيراً, ومن الصفح عند المقدرة, والتسامح والفضل بين الناس, وغفران الأخطاء وذلك لتوفير المناخ المناسب لبناء الدولة الجديدة التي تحقق أهداف الثورة الظافرة. • المبدأ الثاني: مبدأ تسوية الحقوق وأداء الالتزامات المترتبة على الأحداث الدامية: إن الإسلام دين لا يسمح بضياع الحقوق, بل إن الدماء لا يمكن أن تهدر فيه بحال من الأحوال, ويؤكد على إعطاء كل ذي حق حقه؛ لذا فإن المصالحة لا ينبغي أن تقوم إلا على هذه المبادئ السامية, وتؤكد الوثيقة في هذا الشأن على اتباع المبدأ الإسلامي القاضي برد الحقوق وإعمال الحدود والقصاص وإعمال مبدأ الدية, واستخدام الدولة سلطتها في التعزير فيما لا حد فيه ولا قصاص, وذلك حتى يمكن الاطمئنان إلى اجتثاث الغل والأحقاد من النفوس لتمكين الدولة من رد الحقوق والقضاء على المظالم وترسيخ العدل باعتباره أساس الحكم، وتنبه الوثيقة إلى أهمية تجنب إراقة الدماء والاعتداء على الأبرياء في خضم الصراعات المشتعلة الآن. • المبدأ الثالث: ضرورة إعادة بناء مؤسسات الدولة: إن الدولة المصرية الجديدة يجب أن تستعيد هيبتها في أسرع وقت, وأن تمد سلطاتها على كافة المقيمين فيها مواطنين وأجانب, ولن يتم تحقيق ذلك إلا بالبدء في إعادة أسس السلطات التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية فورا دون إبطاء. وتنبه الوثيقة إلى أنه يجب على كل مؤسسة أن تمارس مسئولياتها ووظائفها, وأن تستعيد مختلف أجهزة الدولة وجودها على أسس الشورى التزاماً بمبادئ الحكم في الإسلام, وبذلك يتحقق الأمن والأمان لكل المواطنين ويشعر الجميع بوجود الدولة وقوتها وقدرتها على حماية الوطن والمواطن, وذلك كله يحقق الاستقرار والازدهار والتقدم. • المبدأ الرابع: مبدأ منع الأشخاص من أخذ حقوقهم بأيديهم بعيداً عن سلطة الدولة: إن الدولة لا يمكن أن تنهض بمسئولياتها إلا إذا استحوذت على كافة عناصر القوة المسلحة, كما أن الأمن لا يستقر إذا أخذ كل مواطن حقه بيده وانتزع حقوقه بنفسه, وفي هذا الصدد فإن على الأفراد المبادرة بتسليم ما بحوزتهم من أسلحة إلى الأجهزة التي تعينها الدولة, قناعة منهم بأن استقرار الأمن وقيام الدولة بواجباتها لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع إذا كان كل فرد يفعل ما يريد دون ضوابط, فمجتمع يستطيع كل فرد فيه أن يفعل ما يريد دون انصياع للضوابط والتشريعات التي تقررها الدولة هو مجتمع الفوضى الذي يؤدي إلى انهيار المجتمع ثم انهيار الدولة تبعاً لذلك. • المبدأ الخامس: مبدأ تحقيق العدالة الاجتماعية: إن من الآثار الفادحة للعهد البائد, سوء توزيع ثروة البلاد, التي استأثر بها هو وتابعوه, والمقربون منه, وتركوا أغلبية الشعب يعانون الضنك والحرمان, ويواجه آثار الأمراض المنتشرة والتي تترتب على تفاقم الفقر والجهل والمرض. لذلك تؤكد الوثيقة على أهمية التعاون على حسن توزيع الثروة وعلى تحقيق العدالة الإسلامية بين الناس عملاً بقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) ولا بد أن يشعر كل مواطن أنه يعيش في بلاده معززاً مكرماً, وأن خيرات بلده كلها للجيل الحاضر ثم للأجيال المستقبلية بعد ذلك، وتنبه الوثيقة إلى ضرورة تنفيذ مبدأ الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور. • المبدأ السادس: إقامة دولة الخدمات: إن الدولة الحديثة لا تكتفي بمهمة الحراسة، بل تعمل على تحقيق الأمن -داخلياً أو خارجياً– وإقامة العدل بين الناس, بل تمتد مسئولياتها إلى تحقيق رفاهية المواطن وتوفير الخدمات المختلفة التي يعجز أفراد الشعب عن تحقيقها لأنفسهم؛ لذلك تطالب الوثيقة, بأن توفر الدولة كافة الخدمات بكفاءة عالية خاصة التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وتوفير الوقود والمواد الضرورية للحياة الآدمية. • المبدأ السابع: الاهتمام بالتنمية البشرية والنهوض بمختلف قوى الشعب: إن قوة الدولة تستمد من قوة الشعب ووعيه بمسئوليته, ولعل التحدي الأكبر الذي يواجه الشعوب العربية هو اهتمام الدول بمسئولياتها في الاهتمام بالتنمية البشرية والنهوض بمختلف قوى الشعب ثقافياً وتوعيته سياسياً بحقوقه وواجباته والتركيز على أهمية مشاركته في العمل الوطني, إن ضعف الشعوب وهشاشة بنيان المجتمع أعطى الفرصة لوجود الطغاة وزرعه البغضاء في نفوسهم لشعوبهم. لذا يجب الحرص على ألا تقع بلادنا في براثن طاغية أو طغاة جدد ولن يتحقق ذلك إلا ببناء أجيال جديدة,متمسكة بحقوقها ولا تخشى في الله لومة لائم. إن المجتمع الجديد ينبغي أن يقوم على القول الثابت في الحياة الدنيا ولا يخشى في الله لومة لائم. • المبدأ الثامن: العلاقات المتوازنة بمختلف الدول: لقد عانى الشعب من فساد العهد السابق ومغامراته الفاشلة على الصعيدين الإقليمي والدولي, وساءت علاقاته تبعاً لذلك بالعديد من الدول العربية والإفريقية والإسلامية والمجاورة؛ لذلك تحرص الوثيقة على تأكيد التوجه إلى تحسين علاقة الدولة المصرية الجديدة بجيرانها من جهة وكافة الدول الشقيقة والصديقة لتأخذ مصر مكانها في الأسرة العربية والإفريقية والإسلامية والدولية على أساس من الاحترام المتبادل ودون تدخل في شؤون الغير. • المبدأ التاسع: التأكيد على دور المرأة في بناء المجتمع الجديد: تؤكد الوثيقة على تنمية الدور المهم الذي قامت به المرأة المصرية في النضال والجهاد والتضحية حتى نجحت الثورة؛ لذلك تحرص الوثيقة على إخراجها من حالة القهر والتهميش التي كانت تعيشها في ظل النظام البائد, وتمكينها في المجتمع لإتاحة فرص العمل المناسبة لها في الإطار الذي ترضاه الشريعة, مع ضرورة التوفيق بين دورها في العمل وواجبها في رعاية الأبناء والأسرة, والحفاظ على كرامتها وحسن إعدادها. • المبدأ العاشر: تقوية العلاقات المصرية مع دول العالم ومع المنظمات الدولية: ضرورة التعاون مع المنظمات الدولية وتقوية العلاقات المصرية مع دول العالم خاصة منظمة الأممالمتحدة وأعضاء الأسرة الدولية وتثمين المواقف الإيجابية الدولية في مساندة الثورة المصرية في القضاء على النظام البائد. ثانيا: آليات مقترحة لتنفيذ الوثيقة: إن نجاح هذه الوثيقة في تحقيق أهدافها وترسيخ مبادئها إنما يقوم على وجود آليات للتنفيذ والتخطيط والمتابعة, وهذه الآليات تتمثل في ضرورة إقامة هيئة للمصالحة الوطنية يشكلها السيد الرئيس من ممثلي المجتمع المدني والحكومة والمؤسسات المعنية وتختص الهيئة بما يلي: 1- حصر الأشخاص والمناطق التي عانت من أحداث الثورة والأضرار النفسية الجسيمة التي تسبب فيها الطاغية وأعوانه, ويتولى مندوبو اللجنة زيارة المناطق المتضررة وبحث الأضرار على الطبيعة واقتراح سبل جبر الأضرار. 2- تحيل اللجنة إلى القضاء كافة الحالات التي تمثل جرائم ينطبق عليها فقه الحدود والتعازير حتى يمارس القضاء دوره وإصدار أحكامه بشأنها وتنفيذ هذه الأحكام فور صدورها. 3- تبحث اللجنة مختلف الحالات التي تضررت من جراء أحداث الثورة وتدرس وسائل جبر الأضرار والتعويضات على أساس المصالحة بين الأطراف وتحقيق المصالحة من خلال توفير العدالة للجميع. 4- وضع إطار زمني معلق للانتهاء من حصر الحالات ودراستها وإحالتها للقضاء وحتى إتمام المصالحة؛ لأن العدالة الناجزة واجبة في هذه المرحلة. 5- وضع ميزانية مناسبة لمواجهة تكاليف عمل اللجنة وجبر الأضرار والتعويضات. 6- تضم اللجنة المقترحة بعض الشخصيات العلمية والإعلامية القادرة على وضع خطة إعلامية مقروءة ومسموعة ومرئية لدعوة المجتمع إلى التجاوب مع أهداف اللجنة وتحقيق المصالح المجتمعية, والتركيز على أهمية بسط الدولة الجديدة لنفوذها على الجميع, واحترام القوانين وعدم اللجوء لاستقصاء الحقوق بعيداً عن سلطة الدولة وأحكام القضاء وتحري الكلمة الطيبة التي تحض على التسامح, والإنصاف والعفو عند المقدرة, تأكيداً على دور الخطباء والدعاة والوعاظ من الرجال والسيدات في توجيه الرأي العام وتحصينه ضد الشائعات المغرضة والتيارات الفاسدة والدعاوي الزائفة التي تهدم وتدمر ولا تجني. إن صدور هذه الوثيقة من رابطة الجامعات الإسلامية -التي تضم في عضويتها أكثر من مائة وخمسين جامعة منتشرة في شتى أنحاء العالم- يؤكد على أهمية وضع الحلول المناسبة للمشكلات التي تشهدها الساحة المصرية بصورة عاجلة، مع تأكيدها الكامل على حرمة الدماء، وضرورة الإسراع في المصالحة. وبالله تعالى التوفيق صدرت في رابطة الجامعات الإسلامية بمدينة القاهرة 27 من يونيو 2013م أ.د. جعفر عبد السلام الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية