إنه دائما ما يبهر قارئه بكتاباته المتنوعة بين الأدب والسياسة والفن، يغوص فى عوالم ليسطر تاريخهم بإحساس مرهف فى مواضيع لم يطرقها أحد قبله ليجعلك تستمع لسيمفونية موسيقية وانت تقرأ أحد كتبه أنه حكيم الكتابة العربية "سليمان الحكيم" الذى أخرج لنا أروع طقطوقة غنائية واجمل سيمفونية موسيقية جعلنا نترحم بها على زمن الفن الجميل زمن عمالقة الغناء فى زمن الفيديو كليب عندما نفتح كتابه الجديد "المعانى فى الأغانى" الذى تفوح من بين سطور كلماته نسيم الماضى الجميل. يأخذ الحكيم فى كتابه الجديد القارئ فى رحلة فى بحر الغناء حيث يتابع أمواجه وهى تعلو وتنخفض ويرسو زورقه على كل شاطئ بين الحين والآخر ليرى هذا البحر من بعيد هل تغير؟ هل اختفت من أعماقه اللآلئ والدرر والجواهر من كلمات وألحان كبار المطربين والشعراء والملحنين؟ كما وصفته نوال على رئيسة تحرير كتاب اليوم فى مقدمتها كتاب الحكيم. يتحدث الحكيم فى كتابه عن العلاقة بين موسيقار الشعر محمد عبد الوهاب وشاعر الموسيقى أحمد شوقى فيقول: إنه لو لم يكن "شوقي" لما كان "عبد الوهاب" والعكس فلقد وضعت الاقدار أحدهما فى طريق الآخر ليأخذ كل منها بيد الآخر عبر دروب لا يسلكها سوى العباقرة مستعرضًا كيف جعل عبد الوهاب شعر شوقى على السنة العامة بعد أن كان مقصورًا على الملوك والامراء وكيف أوصل "شوقى" "عبد الوهاب" إلى مكانة لم يصل غيره من المطربين فكلاهما أمير فى مملكته فشوقى أمير الشعراء وعبد الوهاب أمير النغم. يرسو بنا فى المحطة الثانية مع "الست" التى يقول عنها: إن المرأة فى الاغنية العربية هى موضوع الحب وكانت هى المفعول به والمضاف إليه فى جملة الغناء غير المفيدة، ولكن جاءت ام كلثوم لتجعلها الفاعل المرفوع الرأس بالضمة الظاهرة، فهى أتت للغناء فى زمن "الهنك والرنك" فسَمتْ به درجات العظمة. وراح الحكيم يعرض ثورة أم كلثوم فى الغناء حتى وصل به المدى أن قال إنه عندما ماتت أم كلثوم مات الغناء والطرب ومات قبله الشموخ والعظمة. بل راح إلى أقصى من ذلك ليعرض ما سماه ب"الدولة الكلثومية" فى الغناء فهى دولة مستقلة لها حدود معترف بها وسيادة لا ينازعها أحد ولها لغتها التى يجب أن يكون من يدخلها ملم بأبجدياتها. يقول سليمان أن عشرات الشعراء كتبوا لأم كلثوم بالعامية والفصحى ولكن بكلمات لا يستطيع أحد سوى الست ان ينطقها، فهم عندما يكتبون لها يتكلمون وكذلك الألحان، فانظر لأشعار مرسى جميل عزيز وألحان السنباطى وبليغ حمدى والموجى والقصبجى الخاصة بالست وأشعارهم وألحانهم التى كانت لمطربين آخرين وأنت تجد الفرق. ويتوقف بنا الحكيم فى منتصف الطريق ليطرح سؤالا سأله له الكاتب الكبير جمال الغيطانى: لو أن أم كلثوم على قيد الحياة الى اليوم هل كانت تغنى بطريقة الفيديو كليب السائدة هذه الأيام وتستمر فى الغناء؟ وقبل ان نرهق أنفسنا بالإجابة قال الحكيم: إنها ستختار الطريق الثالث التواقف عن الغناء وترك الساحة، فالذهب لا يباع فى البلاستيك وكانت ستكتفى بالفرجة الممزوجة بالحسرة على ما وصل إليه حال الغناء اليوم، فعندما ماتت أم كلثوم مات الطرب وتجرأ على الغناء كل مغامر وطالب شهرة وبموت أم كلثوم مات كل عباقرة الزمن الجميل من حليم والأطرش وشادية ونجاة وفايزة أحمد وبليغ حمدى وعبد الوهاب والموجى ولم تتبقى سوى وردة التى تجاوبت مع الفيديو كليب. ويتساءل الحكيم تلك المرة: لماذا ظهر كل العباقرة فى وقت واحد واختفوا فى آن واحد؟ ويستطرد: إنه ظهر فى الوقت الحالى عشرات الأمثال لأم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم من عظماء الطرب والتلحين والشعر ولكن انجرفوا للشهرة والانتشار وتركوا الأصالة فاندثروا عكس زمن العمالقة الذين برعوا بسبب وجود أم كلثوم اسم الأصالة فى الغناء. ويتطرق إلى مسمى الأغنية الشبابية ويتساءل: هل هى تختلف عن أغانى العواجيز ويأخذنا إلى أن الأغنية هى دليل تقدم المجتمع وتقدم المجتمع مؤشر على تقدم الأغنية، فالأغنية تتأثر بالمناخ الاجتماعى للمجتمع فنجد لكل عصر أغنيته فهناك أغاني الاستقلال عن الدولة التركية وأغانى الكباريهات والخلاعة فى عهد الاحتلال الانجليزى والأغنية الوطنية عام 1919 والأغنية الثورية عام 1952 والأغنية الاستهلاكية السائدة حتى اليوم بعد حرب 1973. فالأغنية هى "ترمومتر" المجتمع أو جهاز السونار الذى يكشف أعماقه ويكشف أغواره فإذا أردت أن تعرف مجتمعًا فاستمع إلى أغانيه يقول الحكيم ذلك وهو يستوقف أغانى الرومانسية والحب مع تطور المجتمع منذ عبد الوهاب "مريت على بيت الحبايب" حتى بلغ التصريح والدخول فى مجالات أخرى للتعبير عن المشاعر والأحاسيس فى وقتنا الحالى. ويستعرض كيف أن كل ثورة سياسية تصاحبها ثورة فنية واقتصادية واجتماعية؟ فكيف ظهر سعد زغلول مع ظهور سيد درويش وتوفيق الحكيم ومحمود مختار وطلعت حرب؟ وكيف ظهر عبد الناصر وظهر معه عبد الحليم وعبد الوهاب وأم كلثوم ونجيب محفوظ. ويخوض بنا الحكيم إلى بداية ظهور الغناء فى لبنان على يد شجرة الأرز اللبنانية فيروز وظهور الرحبانية فقبلهم لم تكن موسيقى للعرب إلا فى مصر وبعدهم أصبحت الموسيقى مصرية لبنانية. ويتطرق إلى أصالة الاغنية كيف توجد أغاني مشهورة اكثر من مطربيها ومطربين أشهر من أغانيهم بسبب عصر الاستهلاك الغنائى وانتشار الغناء السوقى والكلمات المنحطة والاصوات المتدنية فى سلم الغناء والطرب، ولهذا نعرف السبب فى انتشار مطربات لبنان لتحررهن وتقليدهن للغرب، فكان الغلبة لمطربات لبنان فى عصر الغناء بالجسد وليس بالحنجرة. ويجعلنا الحكيم نترحم على زمن الفن الجميل عندما يتحدث عن الشخصيات التى "ملهاش زى" كيف نشعر بهم فى كلماتهم عكس حال اليوم الذى لا تعرف فيه المطرب من المطربة. ويتوقف بنا عند كيفية قيام الغناء بتحقيق القومية العربية وكيف وحد الغناء الوجدان والشعور العربى؟ وكيف صارت الأغنية المصرية هى الطريق لأن تصبح اللهجة المصرية لهجة كل العرب ومثقفيها فلقد ساهمت الأغنية المصرية فى توحيد العرب أكثر من اللغة العربية الفصحى. ويشرح لنا كيف أن الأغنية هى مرآة واقعها إذا هبط هبطت واذا صعد صعدت؟ وكيف طفت على السطح اغانى اتسمت بالعبثيه بعد نكسة 1967 مباشرة ولكن أعادت حرب 1973 الأغنية الى قضبانها إلا أنها لم تستطع ان تستعيد رونقها ولمعانها الى اليوم فهى مازالت فى غرفة الانعاش. وتحت عنوان "الأغنية ترتدى الكاكي" يختتم الحكيم كتابه فيقول: إن النكسة أثرت على كل شيء فى مصر كما أثرت على الأغنية وقد فقد الكثير من المطربين والشعراء والملحنين وعيهم وسارعوا بالانسحاب من القيادة إلى ميدان الركاكة والتفاهة وتحولت الأغنية إلى نقد واحتجاج ورفض ووصلت للشماتة والتشفى فى قيادة الثورة ولكن لم تختفِ الأصوات الجيدة فى أحلك الظروف، وجاء النور مع فرقة "أولاد الأرض" لتعيد الأمل وتحمل بشارة النصر وبعدت نفسها عن الإسفاف الذى مازال يسيطر على الغناء حتى اليوم.