ما زالت زيارة جون كيري للقاهرة مؤخرا والتي جاءت ضمن جولة موسعة للمنطقة موضع جدل واسع في دوائر النخبة السياسية المصرية والعربية وفي تقديري ثمة خصوصية باتت واضحة في علاقات جماعة الإخوان المسلمين المصرية ومؤسسة الرئاسة التي تنتمي إلى الجماعة تقوم أساسا على منهجية براجماتية بالدرجة الأولى - أي تحقيق المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة - بمنأى عن الأيديولوجيات والأفكار خاصة من قبل الإخوان الذين أظهروا كثيرا من الحس البراجماتي بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وحتى قبلها من خلال التحالف مع قوى مناوئة فكريا وسياسيا للوصول إلى البرلمان وترددت مقولات عديدة عن صفقات مع نظام مبارك للبقاء في المشهد السياسي مقابل تأييد ضمني لتوريث جمال سلطة والده والمصالح المشتركة أو المنافع المتبادلة بين جماعة الإخوان ومؤسسة الرئاسة والإدارة الأمريكية تقوم على مبادلة الاستمرار في الحكم مقابل عدم تبني سياسات راديكالية تجاه إسرائيل وبالذات تجاه اتفاقية كامب ديفيد التي كانت الجماعة أكثر القوى السياسية المصرية رفضا لها والأعلى صوتا في المطالبة بإلغائها ومن خلال متابعتي لسلسلة الزيارات التي قام بها للقاهرة عقب ثورة يناير عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين بمن فيهم جون كيري وقت أن كان يتولى مسؤولية رئاسة لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس الأمريكي وكذلك هيلاري كلينتون وزير الخارجية السابقة وغيرهما من قيادات في الإدارة أو الكونجرس لم تغب محددات هذه المعادلة عن جدول أعمال هذه الزيارات وتحدثت مصادر عديدة عن تبني قيادات الإخوان بمن فيهم الدكتور محمد مرسي حتى قبل أن يترشح للرئاسة لتوجهات لا تتقاطع مع الاستراتيجية الأمريكية في مصر أو في منطقة الشرق الأوسط على وجه العموم وهو ما شكل دافعا قويا للجماعة للدخول بقوة إلى مربع السلطة سواء بشقها السياسي أو شقها البرلماني ولم يتم رصد تحفظات أمريكية لهذا الدخول والأمر هنا لم يكن له علاقة بنتائج صناديق الاقتراع التي أسفرت عن فوز رئيس حزب الحرية والعدالة بمنصب رئيس الجمهورية أو حصول الإسلاميين على أغلبية أول برلمان بعد الثورة بقدر ما كان له صلة وثيقة بقبول الجماعة وذراعها السياسية بالمحددات الرئيسية في استراتيجية واشنطن الإقليمية والمتمثلة أساسا في المحافظة على أمن إسرائيل وعدم تهديد بقائها على أي نحو هذه الخلفية تؤشر إلى طبيعة ما جرى خلال اللقاء الأخير بين الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي ووزير الخارجية الأمريكية الجديد جون كيري الذي آثر أن تكون مصر ضمن مرمى أول جولة له في المنطقة وبناء على معطيات اللقاء يمكن رصد ما يلي: أولا: على الصعيد الاستراتيجي جدد الرئيس مرسي التزامه الأهم والمتمثل في المحافظة على اتفاقية كامب ديفيد وكان ذلك من الأهمية بمكان لوزير خارجية جديد في الإدارة الأمريكية بالإضافة إلى تأكيده على أن النظام الجديد في مصر لن يكون ضمن دائرة الخصوم للولايات المتحدة أو المعادين لتوجهاتها ولكن وفق معلوماتي أبدى الرئيس مرسي نوعا من القلق لتصريحات الرئيس باراك أوباما قبل أشهر والتي أخرج فيها مصر من دائرة الحلفاء الاستراتيجيين لبلاده وإن لم يصنفها ضمن دائرة الأعداء لكن كيري قدم له تطمينات على أنه لن تكون ثمة تغييرات جوهرية في سياسة بلاده تجاه القاهرة ورهن ذلك باستمرارها في اتجاهاتها المعتدلة والأهم أن تشكل "كابحا "لحركة حماس في غزة وأن تفي بتعهداتها تجاه الدولة العبرية ثانيا على الصعيد السياسي الداخلي: وفق معلوماتي وتحليلي فإن كيري حرص على إبداء رؤية متوازنة تجاه الأحداث المصرية دون أن يورط نفسه أو بلاده بالميل لهذا الفصيل السياسي أو ذاك لكن أهم ما شدد عليه هو المحافظة على الاستقرار من خلال حث السلطة الحاكمة في مصر على تقديم نوع من المرونة تجاه مطالب المعارضة خاصة على صعيد تشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة هشام قنديل ولكن مرسي حظي بدعم أمريكي فيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية والتي تعرضت لنوع من الإجهاض بعد قرار محكمة القضاء الإداري بإلغاء الانتخابات وإعادة قانون الانتخابات إلى المحكمة العليا الدستورية وهو ما لم يغير من موقف الإدارة الأمريكية الداعم للعملية الانتخابية القادمة في مصر باعتبارها تصب في منحى تعزيز الخيار الديمقراطي الذي تنادي به واشنطن في المنطقة ومقابل هذا الدعم فإنه يتعين على الإخوان ألا يغيروا من مواقفهم المحافظة على اتفاقية كامب ديفيد وألا يكونوا رقما في خانة تهديد أمن إسرائيل ثالثا: على الصعيد الاقتصادي: حصل الرئيس مرسي على دعم أمريكي من زاويتين الأولى إقناع صندوق النقد الدولي بتقديم القرض المتوقف منذ بضعة أشهر والبالغ قيمته 8ر4 مليار دولار مقابل وعد باحترام السلطة الجديدة للتوجهات الليبرالية في إدارة الاقتصاد الوطني وعدم اللجوء إلى أي إجراءات يكون من شأنها تهديد مصالح الشركات والمصالح الغربية في مصر أما الزاوية الثانية فتتمثل في مساندة الإجراءات التي ستقوم بها الحكومة المصرية على صعيد إعادة ضبط هيكلية الاقتصاد وبالذات فيما يتعلق بتقليص الدعم خاصة على الطاقة وربما فرض ضرائب جديدة يكون من شأنها توفير موارد للموازنة الرسمية وثمة محاولة حكومية لإقناع الرأي العام المصري بتلك الخطوات بحسبانها ضرورية لتقليل عجز الموازنة الضخم والذي يتجاوز مبلغ ال180 مليار جنيه وهو ما يتجلى في الإلحاح على أهميتها من قبل رئيس الحكومة الدكتور هشام قنديل وغيره من وزراء المجموعة الاقتصادية وقيادات حزب الحرية والعدالة والذي يصفه البعض بأنه الحزب الحاكم وفي السياق الاقتصادي فإن اتفاقية «الكويز» كانت حاضرة في مباحثات كيري حيث يوجد اتجاه لتعديل شروطها ووفقا لبعض المصادر، فإن الاتجاه في تعديل هذه الاتفاقية ينحو صوب تقليل المكون الإسرائيلي إلى جانب السعي للتوسع في المناطق الصناعية المنضمة للاتفاقية وذلك لرغبة السلطة الحالية في مزاحمة رجال أعمال النظام القديم في الاستفادة من هذه الاتفاقية ولضمان خروجها من سيطرتهم، بما يضمن لها تحكماً كبيراً في سوق المنسوجات وضم عمالة كبيرة إلى صفوفهم. على أي حال يمكن القول إن زيارة كيري للقاهرة شكلت عنصر دعم وتعزيز لسلطة الرئيس مرسي ولجماعة الإخوان المسلمين والذين يبدون الحرص الكبير على العلاقات مع الولاياتالمتحدة ولكن الأمر لا يبدو لي سيصل إلى إعادة إنتاج ملامح العلاقات المصرية الأمريكية في عهد الرئيس السابق حسني مبارك فكما نلحظ هناك توجه لفتح نوافذ في السياسة الخارجية مع أطراف إقليمية بعضها تتسم علاقاته بالتوتر مع واشنطن مثل إيران في حين ينشط البعض الآخر في دائرة المنافسة مع الولاياتالمتحدة مثل الصين وربما الهند وباكستان واللتين سيزورهما الرئيس مرسي قريبا السطر الأخير: لاتصدي يدي الممدودة نحو كفيك .. فأنت المبتغى وسر توهج العناقيد