تمثل فنون الأداء (المسرح والموسيقى والغناء والسينما والرقص والباليه والأوبرا.. إلخ)، بعض الجوانب المهمة والحيوية من الحياة والخبرة الإنسانية. وهي جوانب وثيقة الصلة بالمظاهر الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة للحياة، إضافة إلى ما تشتمل عليه من فهم واستمتاع وتطوير للذوق والإحساس والوعي الإنساني. ويتضمن كتاب غلين ويلسون «سيكولوجية فنون الأداء» (المكتب المصري للمطبوعات، 2018) الذي ترجمه د.شاكر عبد الحميد، محاولة جادة وجديدة لدراسة الكثير من القضايا والموضوعات المرتبطة بعلم النفس من ناحية، وبفنون الأداء من ناحية ثانية، وبالعلاقة المشتركة والتفاعلية بينهما، من ناحية ثالثة. الشاهد أن ثمة الكثير الذي يمكن أن يقدِّمه علم النفس للفنانين المؤدين من أجل مزيد من الفهم لأنفسهم، ومن أجل الارتفاع بفنونهم إلى المستوى المثالي؛ إذ يمكن لعلم النفس مثلًا أن يفسِّر الجذور الغريزية للدافع نحو التمثيل، وكذلك الدافع نحو تأليف الموسيقى. إنه يمكن أن يفحص تلك العلاقة الثنائية بين المؤدي والتلقين، وهي العلاقة التي تشتمل على بعض العمليات الاجتماعية: كالتوحد أو التماهي وسحر الشخصية أو قوة حضورها، والولع أو الإعجاب الشديد أو الافتتان والتيسير الجماعي. يمكن لعلم النفس أيضًا أن يصف الطريقة التي يتم من خلالها انتقال الانفعالات إلى المتلقين من خلال عمليات غير لفظية، كالأوضاع الخاصة بالجسم، والتعبير الذي يرتسم على الوجه. وبوسع علم النفس، كذلك أن يختبر النظريات الموجودة حول طبيعة الفكاهة، وحول قوة الموسيقى، وهما الطبيعة والقوة اللتان تجعلانهما قادرتين على التأثير في انفعالاتنا. إذن هناك الكثير الذي يمكن أن يُقدِّمه علم النفس باعتباره «علمًا للسلوك والخبرة» للمسرح، وكذلك هناك الكثير الذي يمكن أن يقدِّمه المسرح باعتباره «مرآة للحياة» لعلم النفس (ص 12). ويرى المؤلف أن أبعاد الخبرة المسرحية المختلفة تشكِّل جانبًا مهمًا من حياة معظم الناس. فلا يذهب كل إنسان كي يشاهد مسرحية من مؤلفات شكسبير تمثل على مسارح ستراتفورد على ضفاف إيفون أو لمشاهدة أوبرا على مسرح المتروبوليتان، كما لا يذهب كل إنسان لحضور حفل موسيقي أوركسترالي في فيينا، لكن كل إنسان تقريبًا قد شاهد أحد أفلام المغامرات مثل فيلم «حرب النجوم» أو شاهد تمثيلية عائلية أو بوليسية على شاشات التليفزيون، أو رفه عن نفسه بمشاهدة أحد ممثلي الكوميديا في ملهى ما، أو شاهد مهرجًا في سيرك أو ساحرًا في حفلة، أو استمع إلى أحد السياسيين يلقي إحدى خطبه الانتخابية (ص 13). قال الممثل الكوميدي الأميركي المحنك جورج بيرنز ذات مرة إن «الشيء الأكثر أهمية بالنسبة للمثل هو الصدق. فإذا استطاع الممثل أن يتظاهر بذلك، أصبح راسخًا في مجاله» (ص 125). ويشتمل هذا التوجيه المحكم على المنحيين اللذين يمكن أن نطلق عليهما اسمي: النسق أو النظام الخيالي والنسق التقني، وأحيانًا ما يطلق على النسق الأخير اسم النسق الفرنسي، وذلك لأن فرنسوا ديلسارتيه كان قد وضع الأسس الخاصة بهذا النسق بشكل منظم في نهاية القرن التاسع عشر. يتعلق الفارق المميز الأساسي بين هاتين المدرستين بما إذا كان على الممثل أن يتحرك أداؤه من الداخل إلى الخارج، أم يتحرك من الخارج إلى الداخل أي ما إذا كان عليه أن يُركز على «الشعور بالدور» أو أن عليه أن يسقط نفسه أو يلقي بها إلى الوضع الخاص بالجمهور، بحيث يرى هذه الذات من خلال وجهة نظر المشاهدين أنفسهم. لهذا قد يسمى هذان الاتجاهان بالاتجاه الداخلي والاتجاه الخارجي على التوالي (ص 125). يرتبط المنحى الخيالي إلى حد كبير باسم قسطنطين ستانسلافسكي ومسرح موسكو للفنون. فقد شعر ستانسلافسكي أن المسرح الأوروبي حوالي منعطف القرن التاسع عشر كان شديد الاهتمام بالمظاهر الخارجية للشخصية. ومن هذه المظاهر مثلًا: الوضع الجسمي والإيماءات والإبراز الصوتي أو التجسيد، ولذلك حاول ستانسلافسكي أن يعيد توجيه الانتباه إلى العمليات الداخلية لدى الممثلين. وفي كتابه «إعداد الممثل» عام 1936، لخّص ستانسلافسكي بشكل عام الوسائل التي يستطيع الممثلون من خلالها أن يستحضروا إلى مجال خبراتهم المواقف والانفعالات التي يمر بها الكاتب المسرحي ويحاول أن يجعل الشخصيات المسرحية تشعر بها. وبشكل أكثر تحديدًا، فإن ستانسلافسكي أوصى بضرورة أن «يشعر» الممثلون بأنفسهم داخل الدور الذي يلعبونه، ويتخيلوا ما يمكن أن يكون عليه هذا الدور خلال الموقف الدرامي على المسرح. إنهم ينبغي أن يفكروا بينهم وبين أنفسهم ، قائلين «ما الذيينبغي عليَّ أن أفعله، «لو» كنتُ في هذا الموقف». و«لو» هذه التي يسميها ستانسلافسكي «لو» السحرية، هي ما يُقال عنها إنها المفتاح الخاص الذي يفتح باب التجسيد الخيالي للمشاعر والانفعالات التي على على نحو يتسم بالكفاءة (ص 127). وهناك مَلَكة أخرى شعر ستانسلافسكي بضرورة أن يجربها الممثلون ويطوروها، وهي الملَكَة الخاصة بالذاكرة الانفعالية. وينبغي على الممثلين أن يحاولوا تذكُّر المناسبات التي حدثت فيها، خلال حياتهم، ظروف مماثلة لهذه الظروف التي يمثلونها على المسرح، وان يعيدوا تكوين أو إيقاظ ذلك الانفعال الذي كانوا يشعرون به خلال ذلك الزمن الماضي. ثم يمكنهم بعد ذلك دمج ذلك الانفعال، وكذلك الإيماءات التي أوحى بها، أو استثارها، في المشهد الدرامي الحالي بشكل مناسب. لذلك، فإن وظيفة الممثل هي أن يكتشف مادة داخل نفسه يكون في إمكانه تكييفها بشكل يتناسب مع الدور (ص 127). يشير المخرجون والممثلون الذين يفضلون منحى أكثر تقنية، كما هو الحال بالنسبة لتايرون غوثري (1971) ولورنس أوليفييه (1982)، إلى أن الكثير من جوانب «التكتيك» ليست لها صلة بالمشاعر أو الواقعية في الأداء. فعلى سبيل المثال، ينبغي على الممثل أن يكون واعيًا بأن هناك أوقاتًا معينة يجب عليه فيها أن يواجه الجمهور، بحيث يسمع هذا الجمهور الكلمات الخاصة بدوره بشكل واضح، ويمكن الوصول إلى هذا التمكن من خلال موضع خاص في مؤخرة المسرح، أو قد يكون من الضروري للممثل أن يسرق الأضواء من زملائه، وعلى الشاكلة نفسها، يتعلم الممثلون الكلاسيكيون -كجزء أساسي من مقتضيات حِرفة الوقوف على خشبة المسرح- أنه فيما عدا ما يحدث في تلك الظروف غير المألوفة (أو غير العادية) تمامًا، فإن الشخصية المتحركة على خشبة المس ينبغي عليها أن تمر على -أو بجوار- الشخصيات الثابتة من ناحية مقدمة المسرح (أي من ناحية الجمهور). قد تكون هذه أمثلة واضحة، لكنها أمثلة كافية لتذكيرنا أنه إذا «فقدَ ممثلٌ ما نفسه» في الدور الذي يقوم به، وبشكلٍ كبير، فإن ذلك التمركز حول الذات الخاصة به قد يُحدِث تأثيرًا كارثيًا أو مأساويًا على مجهود الفريق كله (ص 129). عبر 414 صفحة من القطع المتوسط، وخلال الرحلة الخصبة والمتميزة التي قام بها المؤلف غلين ويلسون في مجالات مختلفة اهتم بموضوعات عدة مثل: المسرح والخبرة الإنسانية، وجذور الداء الفني، والعمليات الاجتماعية في المسرح، وتدريب الممثل والإعداد للدور، والتعبير الانفعالي، وقوة الموسيقى... إلخ، هذه مجرد العناوين الكبرى التي اهتم بها مؤلف هذا الكتاب، أما العناوين الصغرى فهي أكثر طرافة وجاذبية، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر : أهمية الخيال، والرقابة، منافعها ومضارها، وسيكولوجية المؤلف، والمستويات المباشرة والمستويات الرمزية في العمل الفني والمسرح، والخيال والتراسل بين الحواس، والأساس الغريزي للموسيقى... إلخ. إنه كتابٌ يجمع بين المتعة والفائدة للقارئ المتخصص، وغير المتخصص، على حد سواء.