منذ نجحت روسيا في السيطرة على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا وضمها إليها في عام 2014، ثم غزو أوكرانيا نفسها في فبراير 2022 تزايد حديث الدوائر السياسية في العالم حول احتمال غزو الصينلتايوان. فبكين لم تتخلَ يومًا عن المطالبة بالسيادة على الجزيرة، في حين تقوم حاليًا بأكبر عملية تحديث لترسانتها العسكرية في تاريخها، كما أنها تنتهك باستمرار المجال الجوي والبحري لتايوان. وقد جاء غزو روسيالأوكرانيا بمثابة تذكير صارخ بأن الحروب الكبرى من أجل الأرض لم تعد شيئًا من الماضي، كما رد على المشككين في إمكانية غزو الصينلتايوان خلال القرن الحالي. فقد استغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الفرصة التي سنحت له لاستعادة ما اعتبره جزءاً من أراضي بلاده التي كانت تبتعد عن سيطرته. ومن الممكن جداً أن يحاول الرئيس الصيني شي جين بينج فعل الشيء نفسه في وقت لاحق، في حين قال مسؤولون أمريكيون كبار إن الرئيس الصيني وجه قيادة جيشه بإعداد خطة لغزو تايوان بحلول عام 2027، إذا قرر ذلك. وفي تحليل نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، قال فيليب جوردون مستشار الأمن القومي لنائبة الرئيس الأمريكي السابقة كامالا هاريس وريان هاس مدير إدارة الصينوتايوان ومنغوليا في مجلس الأمن القومي الأمريكي سابقًا، إن هناك عوامل عديدة ساهمت في زيادة القلق بشأن مستقبل تايوان . فالصين قد تلجأ إلى استخدام القوة العسكرية لضم تايوان إذا استنفدت جميع الخيارات السلمية لمنع انفصالها، في الوقت الذي تفضل فيه بشدة استيعاب الجزيرة بطريقة سلمية، مع الحفاظ على اقتصادها المزدهر وتفوقها التكنولوجي وقوتها البشرية. ولتحقيق هذا الهدف، تستخدم الصين مزيجًا من الدعاية المكثفة والتغلغل والتأثير العسكري لتقويض دعم الولاياتالمتحدةلتايوان، وإقناع سكانها بقبول تسوية سياسية تعترف بأن تايوان جزء لا يتجزأ من أراضي الصين. وتزايدت خلال الشهرين الماضيين المخاوف من نجاح الصين في إقناع قطاعات مؤثرة في تايوان بوجهة نظرها. فقد تعمقت الانقسامات السياسية في الجزيرة، مع تبادل الأحزاب الاتهامات بتقويض أمن تايوان. كما تراجعت شعبية الرئيس التايواني لاي تشينج تي، بالتزامن مع تعقد العلاقات التايوانيةالأمريكية. فقد رفضت إدارة ترامب مرور لاي الروتيني عبر الولاياتالمتحدة، وأجلت جهود التوصل إلى اتفاق تجاري مع تايوان، وأوقفت بعض شحنات الأسلحة المقررة لتايبيه، ووجهت انتقادات لاذعة للإنفاق الدفاعي التايواني. كما خففت واشنطن قواعد تصدير التكنولوجيا الفائقة إلى الصين، مما يشير إلى أن الرئيس دونالد ترامب يعطي أولوية أكبر للتوصل إلى اتفاق تجاري وتحسين العلاقات مع بكين على حساب الدعم الثابت لتايوان. ورغم ذلك يرى فيليب جوردون الباحث في معهد بروكنجز ومؤلف كتاب "اللعبة الطويلة الخاسرة: الوعد الزائف لتغيير أنظمة الحكم في الشرق الأوسط"، وريان هاس مدير مركز جون إل ثرونتون للدراسات الصينية في معهد بروكنجز، في تحليلهما المشترك أن مخاوف المجتمع الدولي بشأن مستقبل تايوان مفهومة، لكنها تنطوي على مبالغة كبيرة. فعلى عكس العديد من شركاء الولاياتالمتحدة الآخرين الذين يشعرون بالقلق حيال مستقبلهم، تمتلك تايوان مقومات قوية. فواقع الحال يختلف كثيراً عن الصورة التي قد يشير إليها المشهد السياسي المضطرب فيها، إذ أن نظامها الديمقراطي ومجتمعها المدني قويان، كما أنها معقل لأحدث التقنيات في العالم، واقتصادها ما زال متماسكاً وقوياً. وبفضل هذه المقومات، تسير تايوان قدماً في تنفيذ خطة كبيرة لتعزيز قدراتها العسكرية، مما يقلص نقاط ضعفها أمام الصين، حتى في حال انحسار الدعم الأمريكي. وإذا ما استغلت تايوان هذه المقومات بشكل صحيح، فستتمكن من مواصلة ازدهارها ومواجهة أي مخططات عسكرية أو سياسية صينية. لكن لا يعني هذا التقليل من خطورة التهديد العسكري الذي تمثله بكين لتايون. فمنذ صيف عام 2022، عندما زارت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك، تايوان، بدأت الصين فرض ما يسميه الخبراء "وضعًا جديدًا" في مضيق تايوان. ويتضمن هذا الوضع زيادة عمليات العبور الجوي والبحرية عبر خط الوسط في المضيق، وإجراء مناورات عسكرية متكررة لمحاكاة فرض حصار، وإجراء تجارب صاروخية غير مسبوقة فوق الجزيرة، وتكرار انتهاكات منطقة الدفاع الجوي لتايوان. وفي الوقت نفسه، ولردع الولاياتالمتحدة عن التدخل المباشر في أي نزاع حول تايوان، عززت بكين قدراتها العسكرية من خلال امتلاك المزيد من الصواريخ الفرط صوتية وصواريخ مضادة للسفن، وإضافة صواريخ باليستية إلى ترسانتها، ومضاعفة مخزونها من الأسلحة النووية خلال السنوات الخمس الماضية، وزيادة حجم وقدرات أسطولها البحري بشكل كبير. في المقابل لم تقف تايوان مكتوفة الأيدي. فخلال السنوات الأخيرة، وافقت القيادة السياسية والعسكرية في تايوان على استراتيجية دفاعية غير مسبوقة، وأصبحت أساليب القتال وهيكل القوات وقرارات الإنفاق العسكري تتوافق مع هذه الاستراتيجية. وقد انتهت إلى حد كبير أيام الاعتماد المفرط على القدرات العسكرية المتطورة باهظة الثمن لمواجهة القوات الصينية في مضيق تايوان. والآن، تركز تايوان مواردها العسكرية على جعل الجزيرة أشبه بحصن يصعب على العدو اختراقه، أو السيطرة عليه. كما استفادت تايوان في مجال الدفاع بشكل كبير من دروس مقاومة أوكرانيالروسيا، بما في ذلك إطلاق حملة تعزيز قدرة المجتمع على الصمود وتدريب القوات على سيناريوهات واقعية للهجمات العسكرية الصينية، وتعزيز مشاركة الشعب في الدفاع المدني، وتدريب القوات على كيفية التصدي لهجمات الإنترنت والتهديدات غير التقليدية. كما أن الولاياتالمتحدة وحلفائها اتخذت خطوات لمنع الصين من تنفيذ أي عمليات عسكرية ضد تايوان. فخلال السنوات الأخيرة، قدمت واشنطن، ولأول مرة، مساعدات عسكرية لتايوان من مخزون الأسلحة الأمريكي، وهو إجراء كان مقتصرا سابقا على الحلفاء الذين يخوضون بالفعل نزاعا مسلحا. كما سمحت لتايوان بالحصول على تمويل عسكري أجنبي، مما يتيح لها شراء معدات دفاعية أمريكية. وتسعى الولاياتالمتحدة وحلفاؤها، ومنهم أستراليا واليابان والفلبين وسنغافورة وفيتنام، إلى تنفيذ استراتيجية "التمركز المتعدد" في منطقة المحيط الهادئ لتعزيز قدراتهم العسكرية من مواقع مختلفة، كما تقوم الولاياتالمتحدة بتخزين الذخائر والقدرات العسكرية الأخرى في قواعدها العسكرية في المنطقة لتعزيز الردع في مواجهة الصين. أخيرًا، على الرغم من القوة العسكرية الهائلة والمتنامية التي تتمتع بها بكين، فإنها لا تزال تواجه تحديات داخلية مهمة. فقد تمت إقالة العديد من كبار المسؤولين العسكريين الصينيين خلال فترة ولاية شي جين بينج الثالثة بتهم الفساد أو عدم الولاء. وكما كتب جونثان تسين وجون كالفير في مجلة "فورين أفيرز"، فإن شي جين بينج لا يملك الجيش الذي يصبو إليه، ويبدو أنه لا يثق في قدرة الجيش الحالي على تنفيذ أوامره. ليس هذا فحسب بل إن تايبيه تمتلك أوراقًا تستطيع استخدامها في إدارة علاقاتها مع الرئيس ترامب من خلال زيادة إنفاقها العسكري وتقديم نفسها كشريك أساسي في الحفاظ على السلام والاستقرار في منطقة حساسة عالميًا. لكن ذلك، لا يضمن حماية تامة من احتمال قيام ترامب بالاستجابة لمطالب الصين بشأن تايوان مقابل اتفاق تجاري أو تحسين العلاقات مع شي جين بينج. قد سعت القيادات الصينية المتعاقبة، دون جدوى، إلى إقناع القيادات الأمريكية بالتوصل إلى مثل هذا الاتفاق. ومن المرجح أن يحاول شي جين بينج إقناع ترامب بذلك خلال لقائهما المقرر في الخريف. قد يطلب شي من ترامب التعهد بتقليص مبيعات الأسلحة إلى تايوان أو التصريح رسمياً بأن الولاياتالمتحدة تعارض استقلال تايوان وتؤيد توحيدها مع الصين في نهاية المطاف، وقد يوافق ترامب على ذلك للحصول على الصفقة التجارية التي يحلم بها مع الصين. لكن حتى في هذا السيناريو، تظل تايوان تتمتع باستقلالية كبيرة ولديها موارد وفيرة تمكنها من تحديد مستقبلها. فرغم أن تايوان تواجه تهديدات خطيرة من الصين، مع حالة من عدم اليقين المتزايد من جانب واشنطن، والخلافات داخلية، يرى جوردون وهاس أن هناك ما يدفعهما للاعتقاد بأن قادة تايوان وشعبها قادرون، إذا اتخذوا القرارات الصائبة، على ضمان استمرار ازدهارها وتقدمها بدلًا من مجرد البقاء على قيد الحياة.