داخل خيمته القريبة من ساحل مدينة غزة؛ تلقّى "أحمد" (27 عامًا) أوامر الإخلاء الإسرائيلية، الصادرة أمس الثلاثاء، للسيطرة على المدينة. بات عليه التوجّه، حسب التعليمات، عبر محور الرشيد إلى منطقة المواصي الجنوبية.. لكن "أحمد"، الذي نزح نحو 7 مرات حتى الآن، لم يعد قادرًا على الهروب مجددًا بعدما فقد ساقه اليمنى نتيجة إصابة تعرّض لها خلال قصف استهدف مكانه قبل فترة. كان "أحمد" ينتظر دوره في مركز الأطراف الصناعية والشلل التابع لبلدية غزة لتركيب ساق بديلة، لكنه تفاجأ بإعلان المركز توقّفه عن العمل لتعرّضه لأضرار مادية جسيمة، صباح الأحد الماضي، نتيجة قصف إسرائيلي لمبنى سكني مجاور له. وذكر بيان المركز أن القصف "تسبّب في تضرّر أجزاء من البنية التحتية والمعدات التشغيلية وغرف وأقسام المركز، ما حال دون استمرار تقديم الخدمات الإنسانية الحيوية لذوي البتر ومرضى الشلل، الذين يعتمدون على الأطراف الصناعية والأجهزة المساندة". يتعكّز "أحمد" على عصا، برفقة شقيقه، ليتحرّكا بصعوبة بحثًا عن الماء أو الطعام، ثم يقول: "أولًا، ليس لدينا المال أو أي إمكانيات تساعدنا على النزوح مرة أخرى، فوق أنني صرت حملًا عليهم، كيف سأتمكّن من المشي؟". وكانت إسرائيل قد وافقت مؤخرًا على خطط لغزو مدينة غزة، المنطقة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في القطاع، حيث يعيش نحو مليون شخص، بينهم آلاف النازحين مثل "أحمد" القادم من الشمال. فيقول "نتنياهو" في وجوههم: "القوات تتجمع.. غادروا الآن"، ويهدّدهم وزير الدفاع الإسرائيلي بتدمير المدينة ما لم تقبل حماس بشروط إسرائيل لإنهاء الحرب. وضمن الخطة، تستهدف إسرائيل المباني السكنية بالمدينة، وتحديدًا الأبراج متعددة الطوابق، التي تقول إنها "بُنى تحتية عسكرية تابعة لحركة حماس"، وتسبّب تدمير إحداها في انهيار خدمات مركز تركيب الأطراف الصناعية بعد تضرّر مبناه ومعداته وأجهزته. فوقعت انهيارات كبيرة في الأسقف والجدران نتيجة الشظايا ودُمرت ألواح الطاقة الشمسية فوق المبنى وبراميل المياه وتلفت أدوات التصنيع والأجهزة، بحسب حديث حسني مهنا (رئيس قسم الإعلام بالمركز) لمصراوي، الذي أشار إلى أن "المركز سلم منذ بداية الحرب لنحو 200 مستفيد أطرافا صناعية وأكثر من 1500 أجهزة مساندة إضافة إلى إجراء صيانة لأطراف وأدوات لمئات المستفيدين". أما "أحمد"، فقد تم تسجيله مع نحو 5 آلاف مريض من ذوي البتر في برنامج تنفذه وزارة الصحة بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر والمركز. لكن، كما يقول "مهنا": "توقف عمل المركز سيعطل عمل اللجان حاليًا، وهو ما يؤثر سلبًا بالطبع على حياة هؤلاء الأشخاص وقدرتهم على استعادة الحركة". وظهرت فكرة تأسيس هذا المركز حين برزت مشكلة الإعاقات الحركية في غزة عام 1975، والتي تزايدت مع كثرة الحروب والتوترات في السنوات اللاحقة، فقامت الهيئة الخيرية لقطاع غزة، ومؤسّسها رشاد الشوا، بالعمل على إنشاء مركز لتركيب الأطراف الصناعية، وتم إيفاد شخصين للتدريب في الأردن على صناعة هذه الأطراف، وفقًا لما تذكره بلدية غزة. لكن بعد الحرب الأخيرة، تزايدت أعداد حالات البتر وفقدان الأطراف على نحو غير مسبوق. فيحكي "أحمد" إنه "عانى حتى وصل إلى المستشفى عند وقوع القصف، وحين وصل عجز الأطباء عن إجراء عملية جراحية له في الوقت المناسب لضعف الإمكانيات وقلة المستلزمات، فلجؤوا إلى بتر ساقه". وهو ضمن نحو 5 آلاف حالة بتر جرت في القطاع، بحسب تصريحات زاهر الوحيدي (مدير وحدة المعلومات في وزارة الصحة الفلسطينية)، الشهر الماضي، موضّحًا أن 18% منهم أطفال. كما أن غالبية تلك العمليات "تُجرى في ظروف دون المستوى المطلوب، دون أي خطأ من جانب الأطباء، وتفتقر إلى التعقيم المناسب والمعدات، وأحيانا يقوم عليها أطباء غير متخصصين"، بحسب ما قاله إسماعيل مهر (طبيب التخدير من ولاية نيويورك والذي قاد عدة بعثات طبية إلى غزة خلال الحرب الحالية) لرويترز، مضيفا: "نقص الرعاية الكافية يعني إمكانية فقدان المزيد من الأطراف". وبين أكثر من 163 ألف إصابة في غزة منذ بداية الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023، "هناك ما لا يقل عن ربع المصابين في غزة يعانون من إصابات تغيّر مجرى حياتهم وتتطلّب خدمات إعادة التأهيل الآن ولسنوات مقبلة"، وفقًا لتحليل أجرته منظمة الصحة العالمية حول أنواع الإصابات الناجمة عن النزاع الدائر، والذي ذكرت خلاله أن مركزها الوحيد في غزة الخاص ببناء الأطراف داخل مجمع ناصر الطبي تعرّض للتدمير بعد شن غارة في فبراير 2024. لذا أعاد مركز الأطراف الصناعية فتح أبوابه بعد نحو عام من الحرب، في أكتوبر 2024، "لتقديم الخدمات الطارئة ضمن الإمكانيات المتاحة، بعدما استقبل الكثير من الحالات التي تحتاج إلى صيانة أطرافها المتضرّرة بسبب القصف أو النزوح"، كما يقول، واصفا ذلك ب"الواجب الإنساني". وكان ذلك كمرحلة أولى ثم بدأ مرحلته الثانية، التي شملت استقبال حالات البتر الجديدة الناتجة عن الحرب وتأهيلها لتركيب أطراف صناعية لاحقًا. وفي داخل معمله الصغير، تُصنع هذه الأطراف بالقليل من المواد المتاحة كطرف سفلي (بتر تحت وفوق الركبة) فردي ومزدوج، وطرف علوي (بتر تحت وفوق الكوع) فردي ومزدوج، إلى جانب أجهزة تقويم العمود الفقري وسَواند الأقدام المختلفة. وعمل المركز منذ هذا الوقت وحتى توقّفه قبل يومين، وسط نقص حاد في الوقود اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية وشحّ المواد الخام الضرورية لتصنيع الأطراف الصناعية، التي لم تدخل من الأساس في نطاق المساعدات المحدودة التي تنفد إلى داخل القطاع. وقبل الحرب الجارية، كان المركز يعتمد على استيراد مواده الخام من الخارج عبر معبر بيت حانون "إيرز" شمال قطاع غزة، حيث تقوم اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتنسيق مع القوات الإسرائيلية لدخول هذه المواد، بحسب بلدية غزة. لكن الآن تمنع إسرائيل دخول مواد تصنيع الأطراف بحجّة "أنها قد تُستخدم لأغراض عسكرية". وهذه الأيام، تتزايد الضربات الإسرائيلية على مدينة غزة، وتركز الاستهدافات على منطقة الصحابة وشارع اليرموك بحي الدرج في وسط المدينة وهي المناطق المحيطة بالمركز، كما يحكي حسني مهنا (مسؤول الإعلام بالمركز)، الذي يرى أنه "حتى بعد إصلاحه، سيكون عمله مهددًا، وستتعرض حياة المرضى والكادر العامل لمخاطر جسيمة، ما قد يؤدي إلى توقف طويل الأمد للخدمات الإنسانية". وقد فر أكثر من 16 ألف شخص من المدينة إلى الجنوب والغرب في الفترة من 12 إلى 20 أغسطس الماضي (حسب الأممالمتحدة). ووسط ذلك، يتمنّى "أحمد" أن يتوصلوا إلى اتفاق، لا يبدو قريبًا، ويظل في المدينة المطالَبة بالإخلاء، على أمل أن يفتح المركز لوقت يجد فيه فرصة لتركيب طرف. فيقول بنبرة ساخرة من الأمر: "أريد الحركة بشكل طبيعي مرة أخرى، لأستطيع البقاء في هذه الحياة غير الطبيعية.. حتى يمكنني الركض من القصف ووراء المساعدات!". اقرأ ايضا: ذكريات مُلغمة.. ركام حرب غزة يهدد حياة الناجين