تقع المدن في قلب وباء كورونا، الذي نشأ في الأساس وظهر لأول مرة في إحدى المدن المزدحمة وسط الصين، وانتشر بين عدد كبير من المدن حاصدًا أرواح سكانها، فأصبحت نيويوركالأمريكية واحدة من أكثر الأماكن تضررًا وخيّم الحزن عليها. ومع التزام المواطنين في جميع أنحاء العالم بإجراءات التباعد وحظر التجوال وغيرها من التدابير الاحترازية لاحتواء الفيروس المُستجد المُسبب لمرض كوفيد-19 المميت، باتت شوارع المدن خالية ومُظلمة وكئيبة، ما يطرح الكثير من التساؤلات حول كيف ستبدو هذه المدن عقب انتهاء الأزمة، وكيف ستغدو الحياة الحضرية بعد ذلك؟ هل ستنجو المطاعم ويعود الناس إلى مواصلة أعمالهم في المكاتب؟ هل سيظل الناس ينتقلون من مكان إلى غيره عبر مترو الأنفاق والقطارات المزدحمة؟ أم ماذا سيحدث؟ قالت مجلة فورين بوليسي الأمريكية، في تحليل مطوّل على موقعها الإلكتروني، إن المدن في كل مكان بالعالم لا يزال أمامها فرصة للنجاة، إذا عثرت على طرق للتكيف مع الوباء. وللمساعدة على تصور كيف ستبدو الحياة الحضرية بعد انتهاء الوباء، طلبت فورين بوليسي من مجموعة من المُفكرين حول العالم التحدث عن توقعاتهم، وجاءت كالتالي: المدن ستنجو من فيروس كورونا يتوقع ريتشارد فلوريدا، أستاذ لدى كلية الإدارة في جامعة تورونتو، وزميل لدى جامعة نيويورك، أن تنجو المدن العظيمة من فيروس كورونا، لأن ما يعيشه العالم الآن ليس جديدًا، وسبق أن حدث وتمكنت المدن من النجاة من الأمراض المُعدية منذ عهد جلجامش، وعادت أقوى مما كانت عليه من ذي قبل. يتذكر فلوريدا أن الطاعون الأسود أهلك مدن أوروبية خلال العصور الوسطى، وعانت آسيا من الأوبئة حتى بداية القرن العشرين، وكذلك قتلت الأنفلونزا الإسبانية أكثر من 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك ازدهرت لندن، نيويورك، باريس في أعقابها. وقال: "في الواقع، فإن التاريخ يظهر أن الناس غالبًا ما ينتقلوا إلى المدن عقب الأوبئة للعثور على فرص عمل افضل، وأجور أكبر". في الوقت نفسه، يتوقع فلوريدا أن تتم إعادة تشكيل بعض الجوانب في المدن والمناطق الحضرية، وهو ما يعتمد على فترة استمرار الوباء. الخوف من الازدحام والكثافة داخل مترو الأنفاق والقطارات تحديدًا، بالإضافة إلى الرغبة في توفير أماكن أكثر أمانًا وخصوصية قد يدفع كثيرين إلى التوجه نحو المناطق الريفية. وتابع: "ربما تفكر بعض العائلات التي لديها أطفال أو ممن يعانون من أمراض مزمنة إلى استبدال شققهم في المناطق الحضرية بمنازل ذات فناء في المناطق الريفية، لكن قوى أخرى ستدفع الناس إلى المدن". خلق مستقبل حضري أفضل قالت ميمونة محمد شريف، مديرة برنامج الأممالمتحدة للمستوطنات البشرية، إن حوالي 95 % من مُصابي كورونا يعيشون في مناطق حضرية، وتتوقع أن يُصيب كوفيد-19 الفئات الأكثر ضعفًا وتضررًا، بما في ذلك مليار شخص يعيشون في المناطق العشوائية والأحياء الفقيرة المكتظة بالسكان حول العالم، بالإضافة إلى الأشخاص العاجزين عن العيش في مكان مناسب وميسور التكلفة وآمن. وتابعت: "لا تطالب أشخاصا ليس لديهم منازل بالبقاء في المنزل، بدون مأوى آمن والحصول على الخدمات الأساسية فلا يوجد معنى لكل هذه الجهود". يؤدي هذا الوباء إلى تفاقم الانقسام الحضري الناتج عن عدم المساواة بين الناس في المجتمعات وعدم توفير بعض الحقوق الانسانية، لذلك ترى المسؤولة الأممية أن مرحلة ما بعد كورونا تتطلب معالجة هذه الاخفاقات وتزويد سكان المناطق الحضرية بالخدمات الأساسية، لاسيما الرعاية الصحية والإسكان، لضمان عيش الجميع بكرامة، والاستعداد للأزمة العالمية القادمة. تأسيس المدن الآمنة والمرنة التي نحتاج إليها قالت جانيت صادق خان، المفوضة السابقة في وزارة النقل في نيويورك، إن طريق التعافي من وباء كورونا يمتد على طول شوارعنا، وأضافت: "بإمكاننا إعادة إحياء المدن من خلال تنظيم حركات المرور، والتخلص من الازدحام والتلوث، هناك 1.3 مليون شخص يموتون في حوادث المرور كل عام". ترى المسؤولة الأمريكية السابقة إنه من الضروري إعادة تأسيس وبناء الشوارع كي يتمكن الناس من الانتقال سيرًا على الأقدام، أو على الدرجات أو حتى يستقلون وسائل النقل العام، مع القيام بذلك بأمان وبتكلفة معقولة، بغض النظر عن المدينة التي يعيشون فيها. لدى العالم الآن، حسب جانيت صادق خان، فرصة ذهبية لمنح سكان المدن في جميع أنحاء العالم خيارات متعددة لوسائل النقل، والتجول بحرية مع عدم امتلاك سيارة. وأكدت أن قدرة العالم على التعامل مع هذا الوباء تعتمد بصورة أساسية على توفير بروتوكولات سلامة جديدة للحفاظ على سلامة الركاب وعمال النقل العام، والاستثمار في إجراء توسعات لتسهيل إدارة الأزمات التالية. وأضافت: "التحدي الذي نواجهه الآن ليس ما إذا كنا قادرين على إبقاء المدن كما كانت، ولكن أن يكون لدينا خيال لتحويل الشوارع إلى أماكن أكثر أمانًا ومرونة". تعزيز خدمات الوقاية من الأمراض والاستجابة لها قالت ريبيكا كاتز، أستاذة في المركز الطبي بجامعة جورجتاون ومدير مركز علوم الصحة العالمية والأمن، إن الشباب في جميع أنحاء العالم توافدوا إلى المدن والمجتمعات الحضرية بحثًا عن العمل والتعليم وفرص للتفاعل مع آخرين في سنهم، وسعوا إلى عيش تجارب جديدة في الثقافة والفنون. ومع استمرار انتشار الفيروس التاجي وزيادة الوعي بمخاطر انتقال العدوى أصبحت فكرة الكثافة السكانية أقل جاذبية، وأصبحت الشقق المشتركة والتي كانت سابقًا نقطة انطلاق جيدة للشباب الوافدة مسألة مرفوضة خاصة في ظل الحجر الصحي. في الوقت نفسه، أشار كاتز إلى أن الأثرياء المُقيمين في الأساس بالمجتمعات الحضرية ينتقلون منازلهم الصيفية ويذهبون إلى الجزر والقرى الصغيرة. وبينما يبدو من المستحيل التنبؤ بما ستبدو عليه المدن بعد انتهاء الوباء، تتوقع كاتز أن تعمل الحكومات في كل مكان على تعزيز قدرتها على التعامل مع الأمراض والأوبئة، والاستجابة لها، والتخلص من كل نقاط الضعف المتمثلة في نقص التمويل وقلة الموظفين في أقسام الصحة لحماية السكان، ما يساعد على إبقاء البيئات الحضرية جذابة. ظهور مؤسسات جديدة يعلمنا التاريخ أن الأزمات عادة ما تؤدي إلى ظهور مؤسسات حكومية جديدة، قال بروس كاتز، الباحث في معهد بروكينجز، إن الولاياتالمتحدة انشأت وزارة الأمن الداخلي بعد هجمات 11 سبتمبر، ومكتب حماية المستهلك المالي بعد الأزمة الاقتصادية في 2008- 2009، ومن المرجح أن يتسبب فيروس كورونا في حدوث المثل، خاصة مع الانهيار غير المسبوق الذي أصاب الأعمال الصغيرة والشركات الناشئة. وفي الوقت نفسه، ستزداد أهمية البنوك والمنظمات غير الربحية، وأفضل مثال على ذلك هي مراكز التطوير في مدينة كوبنهاجن، أو تلك الموجودة في سينسيناتي، والتي ستكون ركيزة أساسية لإنعاش الاقتصاد في المجتمعات الحضرية. توفير مساكن أرخص توقع جويل كوتكين، زميل في الدراسات الحضرية في جامعة تشابمان في أورانج ، كاليفورنيا، أن تتسبب أزمة كورونا في جعل المنازل في المناطق الحضرية أرخص كثيرًا، لاسيما وأن الإقامة في المدن سيبقى حاسمًا بالنسبة للبشر. وأشار كوتكين إلى أنه عندما انتشرت الأوبئة في المدن في أوائل القرن العشرين استجابت حكومات المدن إلى تخفيف الكثافة والازدحام، وانخفض معدّل سكان مانهاتن من حوالي 2.5 مليون في عام 1920 إلى 1.5 مليون في 1970، وحدث الأمر نفسه في وسط لندنوباريس، ومع خروج المزيد من الأشخاص من المدن، أصبحت أكثر أمانًا وأكثر صحية. دعوة لإعادة التفكير في النماذج الاقتصادية تعتبر تشان هينج تشي، الأكاديمية والدبلوماسية السنغافورية والسفيرة السابقة لدى الولاياتالمتحدة، إن وباء كورونا بمثابة تنبيه للمدن حول العالم لإعادة التفكير في التخطيط الحضري مع ضمان الأمن الصحي كأولوية قصوى، وهو ما حدث سنغافورة بالفعل. قالت تشان هينج تشي إن سنغافورة أعادت تنظيم النظام الصحي في أعقاب تفشي وباء سارس عام 2003، إلا أن هذا الفيروس التاجي مختلف، هناك جوانب عديدة للأمن الصحي والتي تطرح تحديات خاصة خاصة في المدن التي تفتقر إلى المناطق الريفية النائية، وتلك التي تضعف فيها الإمدادات الطبية والغذائية. تعمل المدن الأخرى المماثلة لسنغافورة على تأمين صحة عدد كبير من العمال الأجانب المهاجرين الذين ساعدوا على بناء المدينة والحفاظ عليها، حسب تشان هينج تشي. يبلغ إجمالي عدد سنغافورة حوالي 5.7 مليون نسمة، منهم مليون تقريبًا من العمال، بما في ذلك العاملات في المنازل وما يقرب من 300 ألف عامل آخر مهاجر معظمهم يعملون في البناء. المدن ستصبح أقوى مما كانت عليه يتوقع دانيال دوكتوروف، رجل الأعمال والمسؤول الحكومي الأمريكي السابق الذي قاد جهود إعادة بناء نيويورك بعد أحداث 11 سبتمبر، أن المدن ستكون أقوى مما كانت عليه. لكن عندما يحدث ذلك حسب دوكتوروف، فإنها ستكون مدفوعة بنماذج جديدة للنمو والتي تؤكد على الشمولية وتتيح الفرص الاقتصادية، وأشار إلى أنه قبل الأزمة كانت المجتمعات الحضرية حول العالم تطالب بتكاليف معيشة أقل وخطط أقوى لمعالجة تغير المناخ، خاصة وأن تكلفة المعيشة في بعض المدن مثل نيويورك كانت لا تُحتمل، ما دفع عدد من السكان إلى مغادرتها. إحياء المدن بعد الوباء يتطلب، وفقًا للمسؤول الأمريكي السابق، إعادة الثقة مُجددًا في الصحة العامة، والاستفادة من السياسات والتقنيات الجديدة لجعل تكلفة الحياة في المدن الحضرية معقولة لأكبر عدد ممكن من الناس. قال دوكتوروف إن الاعتماد على طرق بناء أرخص وأكثر مرونة مثل البناء بالأخشاب الطويلة يمكن أن يُقلل من تكلفة السكن ويقلل من انبعاثات الكربون، وكذلك قد تساعد خيارات التنقل الجديدة المُقيمين على الانتقال دون الحاجة إلى امتلاك سيارة. وأضاف: "إذا انتهزنا هذه الفرصة للبناء بشكل أفضل، فلن تتعافى المدن وحسب، ولكنها ستعود أقوى مما كانت عليه قبل انتشار الفيروس التاجي".