كانت لحظة مدهشة بالنسبة ل جنى أبي مرشد، حين خطّت لأول مرة منطقة عين الرمانة-الشياح في ضواحي بيروت دون حواجز، طيلة 44 عامًا كان ذلك ممنوعًا بسبب الحرب الأهلية التي اشتعلت بين طرفي المكان "اللي يفوت على محل التاني بتصير كارثة"، لكن في ال 27 من نوفمبر الماضي تغير كل شيء، حين نظمت السيدة اللبنانية مسيرة نسائية كسرت الحاجز النفسي بين سيدات الطائفتين. كلما تتقدم جنى رفقة السيدات خطوة في المنطقة تذوب مخاوفها، يكثر عدد المشاركات، وتزداد ضربات قلبها سعادة، وبينما كانت تكمل الثورة اللبنانية يومها ال43، شعرت نساء المنطقة بلحظة انتصار حين عبرن طريق صيدا القديم، وتلاقت كل الاختلافات الطائفية بالوِد، احتوت السيدات بعضهن، تلقفن المبادرة، وصارت رغبتهن واضحة؛ لن نسمح بالعودة للحرب الأهلية مرة أخرى. قبل هذا الحدث بليلة واحدة، سرت رجفة في جسد جنى حين سمعت أصوات طلقات نيران مجاورة، لا يزال شبح الحرب الأهلية اللبنانية يتجوّل في مخيلتها، لا سيما أنها انطلقت من عين الرمانة في ضواحي بيروت في أبريل عام 1975، 15 عامًا استنزفوا لبنان وشعبها، توترت العلاقات بين عين الرمانة والشيّاح، لا تتخطى الأقدام المنطقتين " يفصلهما فقط طريق صيدا القديم، تملّك الخوف من نفس السيدة الخمسينية "معقول بين يوم وليلة تتحول بلادنا وساحاتنا لحرب؟ معقول الحلم اللي كنا نحلم فيه نفقده تحت وطأة العنف وبسبب هيدا الاحتقان؟"، لم تمهل لعقلها مدة أطول في التفكير، هاتفت صديقاتها وقررن تنظيم المسيرة. منطقة واحدة لكن يسيطر عليها طائفتين متناحرتين، في عين الرمانة والتي يعيش بها الطائفة المسيحية المارونية، بينما المسلمون الشيعة في الشياح ويسيطر عليها حزب الله وحركة أمل، عشرات الأمتار شهدت سنوات من الحرب الدموية، بُني بينهما متاريس، كادت أن تُعاد تلك الأجواء العنيفة في ليل السابع والعشرين من نوفمبر العام الحالي، حين نظم فتيان دراجات "حركة أمل" و"حزب الله" غارة نارية على عين الرمانة، لكن تلك الهواجس خفتت تدريجيًا من عقل جنى حين وجدت نساء الطائفتين يُقبّلن بعضهن "يحكوا مع بعض نحن أهل وجيران، نحن عايشين مع بعضنا، حياتنا وولادنا، بنشرب قهوة سوا، بنشتري أغراضنا سوا، وجعنا وجع واحد، فقرنا واحد، مطالبنا واحدة". في لحظات معدودة انهمرت انفعالات متنوعة من السيدات، سكبت كل امرأة مشاعرها " كان في كمية حب ترجمت بالحكي والسلوك بالبكي والضحك والدموع، بالرز اللي انرش وبالورود"، رفعن سويًا لافتات تنبذ الطائفية والحرب "دعونا نبني سلامنا، فلقد دفعنا ثمن حروبكم". كان المشهد مؤثرًا بالنسبة للسيدة اللبنانية، كيف تجاوبت النساء مع المسيرة "في اللي نزلوا بتياب البيت، نساء تحدوا رجالهن، ونساء كبار في العمر بيجروا حالهن جر بس بدهن يكونوا موجودين بهيدا المحل وهيدي الوقفة". اجتمعت السيدات على إيمان واحد، لا سبيل للعودة للحرب الأهلية "ما بدنا الموت، نحن نستاهل الحياة، ونستاهل نعيش في سلام"، لطالما ترددت تلك العبارات على أذن هدى كارباج، لكنها لم تؤمن قط بالشعارات وهي التي قضت طفولتها تحت سماء الحرب الأهلية اللبنانية والأجواء المرعبة، غير أن مسيرة "عين الرمانة- الشياح" حركت بداخلها كل مخاوفها "لأول مرة يكون في فعل حقيقي بيرفض الحرب". منحت الثورة الشعب اللبناني القوة للوقوف ضد سنوات من العنف، في ال16 من أكتوبر انتفض الشعب اللبناني رفضًا لزيادة الضرائب، لكن سرعان ما تحولت دفة التظاهرات لعناوين أكثر شمولية ومنها إنهاء التناحر والطائفية في بلاد الأرز، تُعيد هدى الفضل بتنظيم المسيرة إلى الثورة التي أنهت كل الفوارق الدينية والاجتماعية التي لطالما وقفت حاجزًا بين شعب واحد "نزلت السيدات اللي عاملة كل وجهها بوتوكس لأكبر حاجة كبيرة بالسن، كلوا نزل واتلاقى مهما كانت الاختلافات الطائفية والاجتماعية كرمال يطالبوا بدولة مدنية". حركت مسيرة "عين الرمانة-الشياح" الكثير من المشاعر، ذكرت أهل لبنان بوجع لم يزل بعد، لكنها أحيت الأمل بداخلهم، لذا ألهمت سيدات منطقة "الخندق-التباريس" التي عانت من الصراع الطائفي. كان المشهد مهيبًا حين انطلقت التظاهرة من جهة التباريس بالأشرفية بنساء تحمل ورود وإيمان بالسلام، فيما قابلتهن تظاهرة نسائية مماثلة من جهة الخندق الغميق، بكاء وأحضان أخذت السيدات تعبر عن مخاوفهن دون خجل "خدنا بعضنا وتوجهنا بالمسيرة إلى الخندق"، وعندما وصلوا إلى المكان واجهتهن الأزمة، كاد الأمل أن يتلاشى. وقف شباب منطقة الخندق أمام التظاهرة، منعن السيدات من المرور "قولنالهم كيف ممكن يإذيكم مسيرة نسوان وأمهات؟"، حتى نزلت امرأة من الخندق تحدثت مع الشباب "وصارت تتشاور معهم، وبعد شوي فتحولنا الطريق وبرمنا بالخندق"، تحتبس هدى دموعها لإكمال حديثها "حسيت بشعور لا يوصف، هيدي المنطقتين ما كان حدا يقدر يفوت على التانية، نحن نقدر ما نعيدها للحرب مرة تانية". لم تُمحَ الحرب الأهلية من مخيلة هدى ولو لمرة، لاتزال تشعر بالخوف كما لو أنها لا تزال ابنة التاسعة من عمرها، تسمع أصوات النيران، تضطر للاختباء أسفل الطاولة ربعًا، أو تهرول إلى الملجأ للاختباء، انقباض قلبها حين يتأخر والدها عن الرجوع للمنزل "صار عندي أربعين سنة وما نسيت كل هدا، صوت الرعد بيوترني، ما بطيق اسمع صوته، بيذكرني بإن الماضي لساته عايش جوايا". لم تعد هناك فرصة للرجوع عن الثورة، تؤمن جنى بأنها الخلاص الأكبر من كل الماضي الذي عذّب الشعب اللبناني، يصير صوتها وسع المدى مطالبًا بحياة سالمة دون نزاعات، دون فساد وتمييز، فتُسجل مشاعرها في تسجيل صوتي ليعيش للأجيال القادمة إذا حان موعد غروبها مع الحياة، فيما تعلم هدى بأن الأمر يحتاج إلى وقت "الثورة لو اتنفذت مظبوط بتكون الحل لتشيلنا من هالأسى وتلغي أخيرًا من ذاكرتنا رواسب هالحرب الأهلية"، تمني نفسها بأنها على الأقل ستكون قدمت للأجيال حياة جديدة، أما بالنسبة فيكفيها المشاعر التي راودتها خلال مشاركتها في التظاهرات" أكتر شي حلو بحيات حصل، أحلى من نهار عرسي وزفافي، أحلى من كل شي عشته في حياتي هي هيدا الثورة".