هل عايشت أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟.. هل رأيت العويل والصراخ من عيون انتفخت من فرط البكاء؟.. ماذا لو كنت صحفياً طُلب منك تغطية كارثة غيرت شكل العالم؟.. ربما ستذهب لتستطلع عدد الضحايا، ربما ستكلف نفسك عناء البحث عن المصابين لتسألهم عن شعورهم في لحظة الانهيار، لكن صحفي أمريكي يُدعى لورانس رايت، قرر ألا يفعل ذلك كله، وبدلاً من الكتابة عن الموضوع من أنقاض اختلطت بالأجساد، ذهب إلى مصر، وألف كتاباً استغرق خمس سنوات في تأليفه وهو ''البروج المشيدة.. القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر'' الذي صدر عام 2005 في محاولة استقصائية أجرى فيها نحو 600 مقابلة شخصية لفض ألغاز حادثة حيرت العالم. الكاتب زار مصر عام 1969، للتدريس في الجامعة الأمريكية بالتحرير، في تنفيذ لعقوبة عدم أداءه الخدمة العسكرية أثناء الحرب الأمريكية على فيتنام، وقدم الكتاب بتلك الزيارة قائلاً إنه كان متوقعاً لمصر أن تكون في مصاف الدول الكبرى، لولا ظنه أنها واقعة بين سندان تيار الإسلام السياسي ممثلاً في الإخوان المسلمين، وبين مطرقة الحكم العسكري ممثلة في جنرالات الجيش.
يبدأ الكتاب بفصل ''الشهيد'' عن سيد قطب، الذي يصفه الكاتب قائلاً: ''محترم ومعتز بكرامته وكبريائه ومعذب وصالح في عين نفسه.. هذا هو الرجل الذي ستزعزع عبقريته استقرار الإسلام، وتهدد الحكومات في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وتجذب جيلاً من شباب العرب الذين يشعرون بالغربة والذين كانوا يبحثون عن معنى وهدف وسيجدونهما بعد ذلك في الجهاد''.
الكتابة الإنسانية هي المسلك المنتهج من قبل الكاتب، الذي يسوق المعلومات بعد تمحيص للمكتوب عنهم، حيث قرأ كل أعمال قطب، وقابل كل المحيطين به، يحاول في البداية فهم عقلية سيد قطب، الذي عانى من قصة حب فاشلة، وظل عازباً حتى مات، وبينما كان يبحر من ميناء الإسكندرية، متوجهاً إلى أمريكا في بعثة تعليمية، وهو في الطريق تناهى لمسامعه خبر هزيمة الجيوش العربية في فلسطين عام 1948، فأحس بمرارة يرى الكاتب إنها سببت انكسارا كان له تأثير في تشكيل الفكر العربي أعمق من أي حدث آخر في التاريخ الحديث وكتب قطب حينها يقول: ''كم ذا أكره هؤلاء الغربيين وأحتقرهم! كلهم جميعاً بلا استثناء: الإنجليز والفرنسيين والهولنديين، وأخيراً الأمريكان الذين كانوا موضع ثقة من الكثيرين''.
وجود قطب في أمريكا، أحدث بداخله هزة عنيفة، وهو الأديب سابقاً، الباحث الإسلامي حالياً، سأم الحال والفساد الأخلاقي في بلاد العم سام، الذي أعزاه إلى الاختلاط بين الجنسين، ومقت العنصرية التي جعلت الأمريكيون يطلقون عليه لفظ ''ملون''، ورأى في الشيوعية المنتشرة في العالم خطراً يحدق بالإسلام، وعبر عن كراهيته للمادية التي بدأت تسود العالم، قائلاً إنه يتمنى أن يجد من يحدثه عن شيء غير الدولارات ونجوم السينما، ويخاطبه في شؤون الإنسان والفكر والروح. حيث كره سيد قطب النمط الأمريكي في الملبس والطعام والموسيقى، وهو الذي يفضل الموسيقى الكلاسيكية بعيداً عن الصخب الذي رآه وراسل أحد أصدقائه مشتكياً منها ومن الكرة الأمريكية التي يهشمون فيها الأذرع والسيقان لإحراز الأهداف.
في فبراير من عام 1949 دخل قطب المستشفى لإزالة اللوزتين، وكان يرى أن الممرضات يسعين لإغوائه، وفي الثاني عشر من فبراير، تناهى إلى مسامعه أن حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين قد اغتيل، وقطب الذي لم يكن انضم إلى الإخوان بعد، ولم يكن حتى قابل حسن البنا رغم دراستهم بكلية واحدة هي دار العلوم وميلادهم في عام واحد. ويرى الكاتب أن ''موت معاصره ومنافسه الفكري مهد الطريق أمامه لكي ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكانت هذه نقطة تحول كبيرة في حياة قطب وفي مصير الجماعة أيضاً''.
ما يثير حيرة الكاتب إن الأشخاص الذين عرفوا قطباً في أمريكا يقولون إنه كان يحب الولاياتالمتحدة ويتذكرون أنه كان خجولاً ومهذباً وله ميول سياسية، ولكنه لم يكن متديناً بصورة واضحة، ورغم ذلك بمجرد عودته كتب سيد قطب يقول: ''إن الرجل الأبيض هو عدونا الأول سواء كان في أوربا أو كان في أمريكا. إن الرجل الأبيض يدوسنا بقدميه بينما نحدث أولادنا في المدارس عن حضارته ومبادئه العالمية ومثله السامية.. إننا نغرس في نفوس أبنائنا عاطفة الاحترام والإعجاب للسيد الذي يدوس كرامتنا ويستعبدنا. فلنحاول أن نغرس بدلا من هذا بذور الكراهية والحقد والانتقام في نفوس هؤلاء الأبناء، ولنعلمهم منذ نعومة أظافرهم أن الرجل الأبيض هو عدو البشرية، وأن عليهم أن يحطموه في أول فرصة تعرض''.
عاد قطب من أمريكا في مطلع الخمسينات، وجماعة الإخوان هي الوحيدة التي تهتم بالشعب بإنشاء الجمعيات الخيرية ومقاومة الاحتلال وإرسال الجنود إلى فلسطين، لتخرج الجماعة من غطاء الحزب السياسي إلى جماعة تفرض سطوتها على المجتمع المصري كما أراد لها البنا، حيث قدر عدد أعضائها ذلك الحين بمليون شخص، في وقت لم تكن فيه مصر سوى ثمان عشر ملايين نسمة. ورغم حل الجماعة عام 1948، إلا أن تشكيلهم لوحدات صغيرة سرية صعّب من مهمة الكشف عنهم. وبدأ في ذلك الوقت زيادة نشاط التنظيم السري للإخوان الذي أسس قبل ذلك بموافقة البنا، وكان مهمته عنيفة، حيث الاغتيالات التي طالت عدداً من رجال الدولة حينها.
عاد قطب وكل ذلك يدور في مصر، والأهم من ذلك أن هناك مجموعة من ضباط الجيش كانوا يجتمعون لتنفيذ مخطط الثورة على الملك، وكانت الاجتماعات تدور في ضاحية حلوان، بفيلا من دورين يمتلكها سيد قطب. ويجد الكاتب صعوبة في فهم ما جرى بين الاثنين (ناصر وقطب) حيث يصفهما بأنهما يشتركان في عظمة الرؤية، والعداء للحكم الديمقراطي. ورغم أن الثورة نجحت، وحاول عبد الناصر أن يضع سيد قطب كوزير للمعارف أو مدير للإذاعة المصرية إلا أنه رفض، ورأس هيئة التحرير التابعة للثورة قبل أن يستقيل، ويستحكم الخلاف بينه وجماعة الإخوان من جهة، وبين عبد الناصر وقادة الجيش من جهة أخرى، حيث كان يريد قطب أن يطبق الإسلام، وألا تجد الاشتراكية والعلمانية طريقها إلى مصر.
وبينما كان عبد الناصر يخطب في الإسكندرية، انطلقت عدة رصاصات طائشة كادت ترديه قتيلاً، ويرى الكاتب لورانس رايت إنه في حال مقتل عبد الناصر، لكان قاتله تحول إلى بطل شعبي، لكن فشل المحاولة جعل المصريون يرفعون ناصر على الأعناق ويتقبلون منه كل شيء، فقد اتهم بعد الحادثة سيد قطب بأنه عضو في تنظيم سري شارك في محاولة الاغتيال، وتم القبض عليه وإيداعه السجن، وكانت تلك البداية لتعاطف بعض الأصوليين مع المفكر ذو الجسد النحيل، الذي ألف كتاب ''معالم في الطريق'' في أثناء سجنه، وهربه في صورة رسائل إلى إخوته، ذلك الكتاب الذي قال فيه إن الإسلام لا يحتاج إلى إحياء، بل إلى بعث من جديد.
وفي صباح يوم في منتصف الخمسينات، رفض المساجين المنتمين للإخوان الخروج من زنازينهم، فأطلق الحراس عليهم النيران، ليموت 23 سجيناً ويصاب العشرات، الذين ذهبوا للعلاج في مستشفى السجن، التي كان سيد قطب يرقد فيها للعلاج، حينئذ نفى قطب عن الحراس الانتماء للإسلام، وقال إن أوامر عبد الناصر أهم لديهم من أوامر الله، وكانت تلك بداية موجة تكفير، وحل للقتل، استخدمتها القاعدة بعد ذلك بسنوات طويلة كذرائع لتنفيذ أعمال تفجيرية.
وفي أثناء فترة سجن سيد قطب، حاول عبد السلام عارف رئيس العراق، ومعه عاهل السعودية، الإفراج عن قطب، وبعد الإفراج عنه بستة أشهر، قبض عليه في منتجع بالإسكندرية، بتهمة التخطيط للاستيلاء على الحكم، وحوكم في محاكمة وصفت بالهزلية، حيث كان القاضي هو المدعي، وساعة بدأت المحاكمة قال قطب: ''لقد حان الوقت لكي يضحي مسلم بحياته ليعلن عن ميلاد الحركة الإسلامية'' وبعد جلسات عديدة كان الحكم بالإعدام، وكان دليل القاضي في إصدار الحكم كتاب ''معالم في الطريق''، الحكم الذي حول شوارع القاهرة إلى أماكن مكتظة بالبشر المعترضين على الحكم، ويرى الكاتب أن ''عبد الناصر أساء الحكم على هذا العدو الصلب'' الأمر الذي دفعه لإيفاد أنور السادات في محاولة لإقناع سيد قطب بطلب الاستئناف على قرار إعدامه، لكنه رفض حتى محاولة أخته حميدة التي كانت مسجونة أيضاً وتوسلت إليه قائلة ''إن الحركة الإسلامية تحتاج إليك، اكتب هذه الكلمات'' تعني طلب الاستئناف، فأجابها قطب: ''ستكون كلماتي أكثر قوة لو قتلوني''. وقد كان.
الحلقة القادمة عن أيمن الظواهري، وكيف بدأت أفكار قطب في صناعة الرجل الثاني في تنظيم القاعدة.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك...اضغط هنا