''سوف أصلي من أجل أن تخرجوا من سوريا أحياء. سوف أصلي لكي تصبح عيونكم عيوناً للعالم''. كانت هذه توسلات وابتهالات تضرع خصّت بها سيدة عجوز عقب دفن أحد أحفادها بإحدى بلدات شمال شرق سوريا، الصحفيين الإسبان الستة الذين جاءوا إلى سوريا كمراسلين مستقلين لإنجاز كتاب مهم يتضمن شهادتهم عن ويلات الصراع الدائر منذ أكثر من عامين في البلد العربي والذي أطلقوا عليه عنوان ''سوريا.. ما وراء باب السلام''. والمراسلون الصحفيون الإسبان الذين شاركوا في مشروع الكتاب هم أنتونيو بامبلييجا، سيرجي كابيثا، ميسون، إيتيل بونيت، ألبرتو برييتو. بدأت الفكرة بمبادرة من بامبلييجا، لتدوين تجربتهم التي عاشوها في سوريا خلال عام 2012 ، كصحفيين شبان، لم يتجاوز أكبرهم سنا العقد الرابع. تم نشر الكتاب في إسبانيا مؤخراً ويبحث المؤلفون حالياً عن تمويل عبر موقع ''crowdfunding de libros.com'' بما يسمح بنشر الطبعة الإنجليزية من العمل. يتضمن كتاب ''سوريا.. ما وراء باب السلام'' خلاصة تجربة إنسانية تمزج بين القصص والشهادات الحية والرؤية الصحفية والنزعة الروائية الأدبية، لما لها من قدرة خاصة على اجتذاب القارئ وجعله ينخرط يتفاعل مع تفاصيل الأحداث مباشرة من خلال التعرف بصورة تلقائية على أبطال حقيقيين من لحم ودم للأحداث من خلال استعراض معايشتهم للحظات مهمة في حياة ضحايا الصراع وتأثير ذلك على ما يكتبونه في خضم هذه التجربة الإنسانية الفريدة. في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية ( د. ب .أ ) يقول المصور الصحفي برييتو ''إنها حكايات لن تتداولها وسائل الإعلام التقليدية، التي تسعى وراء جوانب أخرى تبدو عقيمة بالنسبة للمتلقي تجعله ينفر من المأساة. لأن الأرقام الحقيقية للضحايا لا تصلنا أبداً''. هناك حكايات مثل قصة طبيب التخدير المتقاعد محمد الغزني الخطيب ''68 عاماً'' الذي أصبح الطبيب الوحيد المتاح لاستقبال الحالات الحرجة في بلدة تفتناز بمحافظة إدلب إحدى أهم معاقل الثورة ضد بشار الأسد ونظامه. قام هذا الرجل الذي لا يعرف اليأس بارتجال غرفة عمليات في أحد أركان مسجد، واستخدم الملاعق كمبضع أو المقصوصة (المغرفة المثقوبة) كأداة لفصل ضلوع الصدر المصابة. وهناك أيضاً قصة الأشقاء الثمانية الذين انضموا للمقاومة ضد نظام بشار الأسد، نتيجة لاعتقال أحدهم وتعذيبه على يد زبانية النظام، وحِرص والدهم ووالدتهم على تشجيعهم على ذلك وتحفيز الشعور بالفخر والعزة داخلهم بسبب ما يفعلونه. كما يعتبر مشهد مدينة حلب بلا ظل شجرة واحدة على الإطلاق، نظرا لأن السكان اضطروا بسبب البرد الشديد لقطعها لاستخدام أخشابها كوقود يستدفئون به طوال فترة الشتاء، فيعتبر مأساة أخرى حرص الصحفيون الإسبان على تدوينها بالرغم من إغفال كافة وسائل الإعلام التي تقوم بتغطية الصراع لهذا الجانب الإنساني. يوضح بامبلييجا صاحب المبادرة، وهمزة الوصل بين الصحفيين المشاركين في التجربة ''إنها قصص تتيح للقارئ أن يرى في سوريا الجوانب المسكوت عنها في الصراع من قبل وسائل الإعلام''. جدير بالذكر أنه بعد أكثر من عامين من اندلاع شرارة الاحتجاجات الشعبية من مدينة درعا ضد نظام بشار الأسد في خضم ما يعرف بثورات الربيع العربي، في مستهل مارس 2011 ، والتي بدأت سلمية، ولكنها قوبلت بقمع شديد لتتحول إلى صراع مسلح رهيب خلف ما يربو على 70 ألف قتيل حتى الآن، وفقا للإحصائيات الرسمية، بخلاف نحو مليوني ونصف المليون لاجئ ونازح، أصبح الصراع في سورية يحتل اهتماما ومساحة أقل في وسائل الإعلام، والتي بدورها تأثرت بالأزمة الاقتصادية العالمية فما عادت ترسل بمراسليها المحترفين لمتابعة تطورات الصراع. يُضاف إلى ذلك القيود التي يفرضها نظام بشار الأسد على ممارسي مهنة الصحافة، وخاصة من بين المراسلين الأجانب، وإجبارهم على التقيد بما يبثه الإعلامي الرسمي التابع للنظام. ومن ناحية أخرى وجد المراسلون أنفسهم مضطرين للخضوع لنوع جديد من القيود فرضتها المعارضة. يعلق بريتو أن ''الأسد فرض قيودا كبيرة على دخول المراسلين الأجانب مع احتدام حدة الصراع، من منطلق حرصه على استمرار التعتيم على حقيقة الصراع الذي تحول إلى حرب أهلية في سوريا متعددة الجبهات وتورط فيها العديد من الأطراف وهو ما وضع مستقبل المنطقة بالكامل على المحك''. ويتابع ''من هنا رفضت التقدم بطلب للحصول على تصريح لاعتمادي كمراسل صحفي أو حتى كمراسل حر''. ومن هنا يمكن القول بأن الكثير من المراسلين الأجانب الذين دخلوا سوريا لتغطية الصراع، قاموا بذلك بصورة غير قانونية، ومثلهم في ذلك مؤلفي هذا الكتاب الذين دخلوا الأراضي السورية بمساعدة رجال المقاومة عبر باب السلام، الذي أصبح عنواناً للكتاب الذي سجل تجربتهم. حظوا في البداية بذلك الدعم الشعبي لكي يرووا من موقع الأحداث ما لا يسمح الإعلام الرسمي للعالم بأن يعرفه، ولكن الوضع تغير مؤخراً. يوضح برييتو ''نحن كصحفيين أجانب كنا نمثل أيضاً مصدر قلق بالنسبة للمقاومة، لأنهم لم يكونوا يحبون أن يُنشر انتقادات عن الفظائع الرهيبة التي يرتكبونها''، مشيرا إلى أن هذا كان السبب الرئيسي لوقوع حوادث اختطاف بحق العديد من المراسلين الأجانب، كان آخرها واقعة اختطاف أربعة مراسلين إيطاليين، ويظل العديد من المخطوفين مختفياً لشهور طويلة. وإذا كان الموقف بصفة عامة صعباً على المراسلين المعتمدين، فإن الخناق يضيق بصورة أكبر على المراسل الحر، الذي يخاطر بحياته وعلى مسئوليته، وينفق من ماله الخاص لكي يتمكن من دخول سوريا بدون أي دعم من أي وسيلة إعلامية وبدون أي ضمانات أن القصة التي سيكتبها سوف تحظى بالنشر أو ستجد في النهاية من يشتريها. يقول برييتو ''تحبذ وسائل الإعلام التقليدية شراء الأخبار بسعر متدني، دون أن يعنيهم من خاطروا بأرواحهم للحصول على هذه الأخبار من موقع الأحداث، لأن المشكلة الحقيقية هي أن وسائل الإعلام ابتعدت تماماً عن رسالة الصحافة الأساسية وأصبحت تركز الآن على البيزنس''. يدرك برييتو أن عمله يحمله مسئولية أخلاقية لأنه من وجهة نظره ''يتعين على أحد أن يروي حقيقة ما يجري''، بصورة مستقلة لكي يقوم القراء بتدبر الأمر، مشددا في الوقت نفسه على أن يقوم محترفون بهذه المهمة. ''في النهاية لا يجب أن يتحول الإعلام لبوق دعاية، بل يجب أن ينشر ويحلل ويقدم البراهين على صدق الخبر، ومن هنا تأتي أهمية وجود مراسل في موقع الأحداث''. غلب على الصراع الدائر في سوريا بصفة عامة نقص المراسلين المستقلين الذين قاموا بتغطية تطوراته، ومن هنا تأتي أهمية صرخة الإدانة التي يطلقها مؤلفو هذا الكتاب لفضح ''الأكاذيب الكبيرة'' التي تروجها وسائل الإعلام حول الوضع. يؤكد برييتو أن ''أول هذه الأكاذيب وأهمها تتمثل في أن النظام ليس سيئا على الإطلاق، كما أن المقاومة ليست كلها من الأخيار. هناك من يرتكب أعمال مريعة من الجانبين. بطبيعة الحال النظام يتحمل المسئولية الأكبر عنما يجري، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن تبرير ما تقوم بها المقاومة على أنه رد فعل عنما يتعرضون له من هجمات''. ويتابع ''هناك أكذوبة أخرى شاعت وتتردد بكثرة في وسائل الإعلام أن عناصر جهادية مدفوعة من قبل دول أخرى، يسيطرون على صفوف المقاومة، وسوف يكسبون الحرب''، مشيرا إلى أن ''جبهة النصرة'' المقربة من القاعدة، تمثل أقلية بالنسبة لمقاتلي المقاومة، نظرا لأن النواة الصلبة للثورة ضد بشار الأسد تكونت بسواعد مواطنين عاديين غير مؤدلجين وليس لديهم أي توجه أو تثقيف سياسي من أي نوع، ومن ثم لا يدخل في أخلاقياتهم السماح بالقتل أو تبريره. يعد كتاب ''سوريا.. ما وراء باب السلام'' محاولة تسجيل أمينة للوقائع، فضلا عن كونه عمل مُهدى للصحفيين الذي سقطوا خلال عملهم على الأرض، وإلى الشعب السوري الصامد المقاوم بعزة وكرامه، وبصفة خاصة إلى العاملين في مجال الإغاثة، الذين يخاطرون بحياتهم من أجل إنقاذ أرواح غيرهم، ولهذا أصبحوا الأكثر استهدافا من قبل هجمات قوات النظام. يقول بامبلييجا إنه ''بالفعل كان مؤلفو الكتاب يعتزمون تخصيص أرباحه لصالح مستشفى دار الشفاء بمدينة حلب، ولكن هذه المستشفى تم محوها تماما من على الخريطة، ولهذا سوف يقومون بالتبرع بالمبلغ من أجل شراء أدوية ومستلزمات طبية للشعب السوري.