إشراق أحمد وشيماء الليثي ودعاء الفولي: سائق ''الميكروباص'' قرر إيقاف السيارة على مدخل القرية، الذي كان عبارة عن طريق ترابي غير ممهد، يحيطه بعض الأراضي الزراعية والبيوت القديمة، وعلى جانب تلك الأراضي يوجد قضبان السكة الحديد، أعلى قليلاً من مستوى الأرض التي يسير عليها أهالي القرية، كأن القطار السائر على القضبان يأبى إلا أن يتعالى عليهم وعلى قريتهم الفقيرة. نزل السائق من ''الميكروباص''؛ حيث أوقف العربة على بعد بضعة خطوات من تلك ''المقطورة'' التي انقلبت وخرجت عن ''القضبان''، ليرى تفاصيل الحادث بوضوح. كانت أصوات المتفرجين على '' العربة'' قد بدأت تردد أشياء من قبيل '' لا حول ولا قوة إلا بالله''، '' مش حرام العيال اللي راحت دي'' و '' هي البلد دي مش هتنضف بقى''. خارج ''الميكروباص'' وبجانب العربة المحطمة التي تجمّع أهالي القرية حولها، كان ضوء الشمس قد جعل تفاصيل الموت والدماء وحديد العربة ''المتهتك'' يبدو أوضح، مما جعل الناس الذين حملوا ضحايا الأمن المركزي بالأمس يرون العربة وكأنها المرة الأولى ويندهشون كأنهم لم يحملوا بين أيديهم أشلاء وجثث ومصابين. ''عربة الموت'' كانت العربة تحكي عن مَن ماتوا فيها، قميص ممزق ملقى بإهمال على الحديد كان يلبسه أحد المجندين، '' شنطة'' كان فيها أشياء خاصة بمجند آخر كانت ملقاة على طرف العربة، و متعلقات أخرى تحكي المأساة. وعلى بعد خطوات قليلة من العربة المحطمة، كان بيت ''مروة'' وعائلتها الذين رأوا الحادث، '' كنا قاعدين بره البيت وشايفين كل حاجة، بقوا يشيلوا الناس والعربيات كانت بتساعد الاسعاف''، مؤكدة أن '' العربية بتاعة القطر كانت ماشية لوحدها واتقلبت هنا''، وأشارت بيدها لمكان العربة، مما سبب لها ولأهلها الصدمة خاصة وأنهم '' أول مرة نشوف حادثة زي دي ولما كان بيحصل كانت بتبقى بعيد عننا مش للدرجة دي قريبة''. ومن البيت الشاهد على الحدث إلى قضيب السكة الحديدية، الذي شكى كثرة الحوادث عليه، كانت الناس تقف متناثرة من هنا وهناك، البعض كان يصرخ بعلو صوته قائلاً، '' مش حرام يعني اللي حصل ده''. ووقف أحد أهالي القرية ناظراً لما حدث كأنه لازال غير مصدق واصفاً ما حدث '' الناس جابت لودر وعدلت العربية.. ناس كتير هلكت والمستشفيات اللي عايز يروح يشوفها مليانة بشر كتير'' ، معترضا لأن '' '' حرام إن ناس غلابة زي حالتنا تترمي كده ومحدش يسأل فيها.. فين محمد مرسي بيقولوا بيعمل ويسوي مافيش حد بيعمل ولا يسوي ''. ''قضبان'' ومتعلقات فقيد بدأت الرحلة على قضبان السكة الحديدية؛ كانت متعلقات المجندين مترامية على القضبان على مسافات بعيدة وقريبة، بعضها من الملابس، و بعضها الآخر من ما بقي من طعام لم يكمله صاحبه أو كما قال أحد الأهالي السائرين على امتداد القضبان '' متمشوش على القضبان عشان كان فيه أعضاء بشرية مرمية''. من حين لآخر كان التعليق الذي يُقال على ألسنة أهالي القرية الموجودين على شريط السكة الحديد، يوضح أن بعضهم لم يفهم كيف وقع الحادث، بعضهم لا يستوعب فكرة أن العربة التي انفصلت عن القطار ووقعت عن القضبان قد سارت أكثر من 2 كيلو متر بمفردها دون سائق حتى انتهى بها الأمر على الطريق أسفل القضبان. ''صلاح'' أحد الشاهدين على تداعيات الحادث أكد أن'' ما شوفتش الحادثة وقتها جيت حوالي الساعة 4 الفجر، لكن الحقيقة الناس بتوع أهل البلد دي عملوا اللي عليهم وزيادة، 80% من الأهالي هى اللي كانت بتساعد على نقل الناس للمستشفيات بعربتها الخاصة مع الإسعاف'' موضحا أن عدد الضحايا كان كثير وأنه رأى بنفسه أربعة أموات لكنه لا يعلم شيئا عن الباقين. فيما روى '' هاني أبو بكر'' الأحداث من البداية، '' سمعنا الخبطة كلنا جرينا الصراحة، الشباب اللي قاعدين على القهوة وكله.. الصراحة احنا جينا على الصوت من كتر القلب والدربكة ''، و قد حاول أهل القرية طبقا لكلام '' هاني'' أن يحضروا '' البلدوزر'' لكي يرفعوا القطار، فذهبوا لمجلس المدينة ليلا، لكنّ أحداً لم يخرج لهم أو يحضر شيء وأبدى '' هاني'' انزعاجه بشدة من الوضع كله بسبب سوء الخدمة في المستشفيات المحيطة '' روحنا مستشفى البدرشين المركزي مقبلتش عشان مافيش امكانيات، بقينا نودي على مستشفى الحوامدية ونوديهم في عربيات نص نقل ''. إلا أن أكثر ما أحزن '' هاني'' هو ما انتهى إليه حال العساكر، إذ أن '' دي عساكر وهو رايح الجيش أمه بتزغرد له، يقوم يرجع لها جثة، ده لو جاسوس إسرائيلي هيقلبوا الدنيا عليه عشان يجيبوه ويحاسبوه، ما بالنا بالجنود المصريين بقى خير جنود الأرض''. ثم استطرد قائلاً '' الجيش في أي حتة في العالم اجباري وبفلوس، احنا عندنا اجباري وبنموت ومحدش بيجيب حق حد، لأن احنا مش عارفين نجيب حق نفسنا'' . حزن وغضب على القضبان وعلى القضبان؛ حيث الرحلة من العربة لمكان اصطدام القطارين، كانت وجوه الناس من أهالي القرية مكفهرة من الشعور باليأس والتعب إذ شارك معظمهم في مساعدة الإسعاف حتى الصباح الباكر، وعادوا مرة أخرى، ليطالبوا بحق من ماتوا من الجنود، مع إن الجنود ليسوا من عائلاتهم. في الطريق اختلفت تعليقاتهم المعبرة عن الحزن أحياناً والغضب أحيان أخرى؛ حيث وقف أحدهم ليقول بصوت مرتفع '' هو الإعلام مبيجيش غير في المصايب بس، مبتجوش ليه قبل ما الدنيا تبوظ''، فيما قال آخر'' مرسي هو السبب في اللي بيحصل، مفروض الحكومة كلها تتشال''. بعض أطفال القرية كانوا يلهون فوق القضبان، لا يعنيهم ما حدث على الرغم من كل شيء، فتعلو ضحكاتهم الصبيانية، يصعد أحدهم لأحد القطارات الموضوعة في ما يسمونه هناك '' التخزينة''، التي يعتبر القطر الموضوع فيها خارج خدمة الاستخدام. أما هذا القطار الذي كان الأطفال يلعبون داخله فهو القطار القادم من الفيوم والذي احترق في '' البدرشين'' أيضا منذ عدة أشهر، كانت مقاعده عبارة عن رماد متبقي من أثر الإحتراق، لم يبد أن مظهر القطار المحترق جعل الأطفال يخافون وكأنهم اعتادوا على ذلك. أحد أهالي القرية قال معلقاً على القطار المحترق، '' القطر ده محروق من ييجي كام شهر كده و مركون من ساعتها''، لكن'' محدش جه شاله، بس هما حاطينه في التخزين هنا''. تجمهر ومشاهد لازالت الرحلة على قضبان الموت مستمرة، من بعيد أفصحت الرؤية عن أعداد ليست قليلة من المواطنين المتجمهرين بجانب قطار جنود الأمن المركزي الذي اصطدم بقطار البضائع الموجود في المحطة سلفا، قد تصطدم قدماك فجأة بشيء، لتنظر تحت قدميك فتجد مجموعة من الأحذية، أحذية الجنود الذين ماتوا، جمعها الناس في مكان واحد، احتراماً لأصحابها. هنا بدأت أشياء أخرى تتضح في الأفق، كرسيان ملقيان في الأرض الزراعية الموجودة على جانب شريط السكة الحديد، أو بعض الحديد الذي أصبح بلا شكل ملقى في كل مكان، أما العربة التي تهتكت نتيجة الاصطدام فكانت ملقاة في الأرض الزراعية أيضاً، حالها كحال الأجساد و الأعضاء التي تناثرت على الطريق بعد الحادث. ''جيت أنا واخويا بليل لما سمعنا عن الحادث شوفنا نص العربية مرمي قدام كده شوية والنص التاني هنا قدام القضبان، وشوفنا منظر الناس اللي ماتت وبنلم من هنا اللي ايده مقطوعة، عربيات اسعاف الحكومة جت في وقت متأخر جدا، بعد ما الناس اللي كان معاه عربية أو توك توك بقى يشيل ويودي على المستشفيات .. في مستشفيات فيها العلاج و مستشفيات تانية لا حول ولا قوة متقدرش تكفي الناس المصابة''، هكذا روى '' عيد'' أحد أهل القرية. طالب '' عيد'' بوجود الأمان الكافي داخل القطارات كما أنه '' أحنا بنطالب بحقوق الناس اللي ماتت دي، الأطفال اللي ماتت والقطارات اللي ولعت و آخر حادثة بتاعة العساكر''، مشيراً إلى أن '' قطر أسيوط والأطفال الصغيرة اللي ماتت محدش جاب حقهم لغاية دلوقتي ولا حد عمل أي حاجة ومن كام شهر قطر ولع هنا وبرضو نفس القصة''. بدأت أصوات المواطنين الغاضبين تعلو بذلك الهتاف '' مش هنمشي هو يمشي''، حينها ظهر وسط حشد كبير من الناس أكثر من ظابط شرطة وربما أحد مسئولي المحطة في البدرشين، جاءوا للأهالي لإقناعهم بفتح الطريق لكي تستمر حركة القطارات، لكن أهالي القرية لم يكن في نيتهم وقتها أن يفعلوا ذلك. لم تفلح محاولات المسئولين في إبعاد أهالي القرية الذين لا يمتون إلى المصابين والقتلى بصلة، إلا بعد ذلك بفترة طويلة و لعل الحادث كما بدا من حديث المواطنين هو الفتيل الذي أشعل الغضب الكامن في النفوس. أقرّ معظم المواطنون بأن حالة المستشفيات التي تخدم البدرشين، كانت سيئة بشكل جعلها لا تسع الحالات الخطرة، إذ أن '' محمد'' أشار إلى '' لما جينا لقينا عساكر متغرقة دم ولما اتوجهنا للقطر كان في حالات حرجة والأهالي مش عارفة تتحرك بلغنا مستشفيات الحوامدية والبدرشين أن مسؤول يجي لكن مفيش حد عايز يجي يدينا اهتمام''، مضيفا أن '' أن العساكر كانو بيسئلونا و احنا بنشيلهم عن صحابهم و بيسئلوا هما عايشين ولا ماتوا''. وقريبا من '' جمهرة'' الناس، جلس'' محمد صلاح'' والدموع في عينيه أمام ما تبقى من القطار القادم من أسيوط، ''محمد'' كان عائداً من عمله عندما '' لقيت واحد عمال يشيل في واحد متعور اتصدمت من الموقف ده، وقلت ده لو واحد مؤمن بربنا وشاف النظر ده هيقول أشيل معاه، بقينا نتحايل على الناس يا جدعان شيلوا ولا حد.. كتير اوي كان واقف يتفرج'' . وعبر'' محمد'' عن امتعاضه من تعاطي الناس مع الموقف، إلا أنه لم يتخيل أن يتعامل أحد رجال الإسعاف مع الموقف بأنهم '' قابلني واحد بتاع اسعاف بيضحك و بيجري على العربية وبيضحك'' . وعن تفاصيل رؤيته للمجندين المصابين أكد أن '' كان في كتير لسه عايش، وفي واحد ربنا يكفينا الشر رجليه كانت مزنوقة تحت عجل القطر ومش عارفين نعمل ايه، وكان في واحد متعور قولت له قادر تقوم اسندك واشيلك يقولي لأ مش هاقدر سيبني عشان أنا تعبان''، ووجه '' محمد'' رسالته إلى مسئولي الدولة '' الدنيا كلها بتتفرج سواء البدرشين أو الحوامدية والحكومة جاية، قولت لهم انتوا لسه جايين يا حكومتنا بعد الدنيا ما خربت''. خاتما كلامه بأن '' مصر دي بتاعة كلام كتير وعارف أنهم مش هيعملوا أي حاجة واللي ماتوا دول الله يرحمهم محدش هينفعهم بأي حاجة والفلوس مش هتعوض دم اللي راح احتسبوهم شهداء عند ربنا''. ''البدرشين ''.. محطة أخيرة من مكان الحادث إلى المحطة التي شهدت مرور القطار قبل انفصال العربة عنه ووقوع الحادث؛ محطة '' البدرشين التي كانت خاوية على عروشها إلا أن '' السيد مؤمن''، صاحب '' كافتيريا'' موجودة بالمحطة، بدا أنه تعود على مثل هذا النوع من الحوادث؛ حيث أن '' البدرشين شافت حوادث كتير جداً، المسألة مش في القضبان بس، والناس اللي شغالة في المحطة بتتعامل في حدود اللي في ايديها والسكة الحديد كلها تعبانة، حتى القطارات قديمة وبيتعملها عمرة وتخرج وتتركب تاني ''.