عمان (رويترز) - نصبت خيام تأوي ألوف اللاجئين الذين يحاولون الفرار من البلاد عند معبر حدودي يسيطر عليه مقاتلو المعارضة في شمال سوريا في منطقة كانت قبل أقل من عامين مكدسة بشاحنات تصطف في طابور الجمارك. وتلقي سيطرة المعارضين على معبر باب الهوي الذي كان يستخدم سابقا في مرور الصادرات من تركيا ودول الخليج إلى بقية دول الشرق الأوسط وأوروبا الضوء على تعطل دور سوريا كمعبر للبضائع مع اتساع نطاق الصراع ما تسبب في انخفاض حاد في الدخل من الرسوم الجمركية. ويمثل تراجع الإيرادات العامة إشارة على الضغوط المالية التي تواجهها دمشق في أعقاب الانتفاضة التي اندلعت قبل 20 شهرا ضد حكم الرئيس بشار الأسد والتي شلت الانتاج الصناعي وانتاج النفط وبدأت تراجعا حادا في قيمة العملة المحلية. وتوجه الحكومة التي ينصب تركيزها على التغلب على المعارضين الموارد الاقتصادية باتجاه انصارها بالإبقاء على الدعم الكبير وزيادة أجور العاملين بالحكومة وتخزين القمح والمواد الغذائية الأساسية إضافة إلى اضطرارها لزيادة الانفاق العسكري. ويشكل ذلك ضغوطا كبيرة على المالية العامة ما يزيد مخاطر أن تلجأ السلطات في نهاية الأمر إلى طبع النقود لدعم الاقتصاد. وهو أمر تحاول دمشق منذ فترة طويلة تجنبه خوفا من إثارة تضخم شديد والمزيد من الاضطرابات الاجتماعية. وكشف وزير المالية محمد الجليلاتي الشهر الماضي عن ميزانية العام المقبل معلنا زيادة بنسبة 13 بالمئة في مرتبات العاملين بالدولة وزيادة بنسبة 25 بالمئة في دعم الغذاء والوقود والكهرباء والزراعة. وقال سمير سعيفان الاقتصادي السوري البارز "هذه ميزانية حرب والجزء الرئيسي منها يصرف على الجيش والشبيحة وعلى رواتب الموظفين ...وبعض النفقات الضرورية الاخرى لتسيير ماكينة الدولة حتى تظل محافظة عليها خاصة في المناطق التى لا زالت مسيطرة عليها ويروجون ان الدولة مازالت قائمة." وكان سعيفان مشاركا في صنع القرار قبل الازمة ولكنه فر من البلاد. وجاءت الميزانية التي أعلنها الجليلاتي أزيد بنسبة أربعة بالمئة من ميزانية هذا العام عند مستوى 1.38 تريليون ليرة سورية (19.62 مليار دولار) على الرغم من تراجع الإيرادات خاصة من قطاع النفط الذي كانت إيراداته تمثل 45 بالمئة من إيرادات الميزانية. وتفيد تقديرات اقتصادية أنها أصبحت الآن تمثل ما بين 20 و30 بالمئة فقط مع تراجع انتاج النفط إلى النصف منذ بدء الأزمة ليبلغ 200 ألف برميل يوميا. وقال سعيفان "الإيرادات تراجعت والسلطات استنفدت احتياطياتها وما يبقي على سير الأمور هو بعض المساعدات المالية من إيران وربما من روسيا." كما أن الميزانية لم تعد تعكس بالكامل حالة الاقتصاد أو مالية الدولة نظرا للسرية التي تحيط بالانفاق العسكري وازدهار الاقتصاد غير الرسمي حيث لا يدفع مئات الألوف من السوريين ضرائب على الدخل عن عملهم في متاجر صغيرة أو في أعمال زراعية موسمية أو عمليات تهريب بالمخالفة للقانون. وتهدف العقوبات التي تفرضها دول غربية على سوريا والتي تحظر تصدير السلاح لها إلى تقليص تدفقات الأموال التي يحتاجها الأسد لتمويل الجيش. وتفيد تقديرات سعيفان أن الاقتصاد السوري انكمش بما بين 30 و40 بالمئة على الاقل العام الماضي بسبب انهيار السياحة التي كانت تمثل 11 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وانخفاض انتاج النفط الذي كان يمثل 23 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. ودفع انخفاض قيمة الليرة السورية بنسبة 65 بالمئة منذ بدء الأزمة تكلفة استيراد الوقود وغيره من السلع للارتفاع بشدة وأصبح نقص هذه السلع جليا. وكان عجز الميزانية عند مستوى مقبول بين 3 و5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي قبل الأزمة لكن في عام 2013 تتوقع الميزانية عجزا عند مستوى 745 مليار ليرة أي نحو ربع الناتج المحلي الإجمالي قبل الأزمة البالغ ما بين 50 مليار و60 مليار دولار. ويستهلك الدعم على سلع مثل وقود الديزل والكهرباء والسكر والأرز نحو 40 بالمئة من إنفاق الحكومة في حين تستهلك الكهرباء وحدها نحو 15 بالمئة من حجم الميزانية. ومن ناحية اخرى قلصت العقوبات التي تحد من التحويلات المالية تحويلات السوريين العاملين بالخارج التي كانت تبلغ نحو 800 مليون دولار سنويا وكانت تشكل شبكة أمان اجتماعي. وزاد ذلك من معاناة السكان بعد ان أدى الصراع المسلح إلى نزوح مئات الألوف وحول العديد من البلدات والأحياء إلى أنقاض. ومع اتساع نطاق الحرب الأهلية ارتفع الانفاق العسكري بدرجة كبيرة بما في ذلك تكلفة قوات أمن ضخمة للدفاع عن الأسد. ويقول مراقبون لسوريا إن الحصول على بيانات دقيقة أمر مستحيل إذ ان الانفاق العسكري السوري كان دائما محاطا بالسرية حتى في أوقات السلم. وقال باحث بارز في هيئة حكومية سورية طلب عدم نشر اسمه "الانفاق الأكبر يوجه إلى الجيش وقوات الأمن لكن لا توجد بيانات يعتد بها." واضاف "هذا جزء لا نراه. لذلك تعتبر الميزانية لغزا." وتظل أكثر القضايا حساسية هي حجم ما سحبته السلطات من احتياطيات الذهب والعملات الأجنبية التي كانت تبلغ 18 مليار دولار قبل الأزمة. وقبل الأزمة كان سرا معلنا أن اغلب إيرادات النفط يوجه إلى ميزانية الدفاع السرية. وفي ميزانية عام 2013 هناك 400 مليار ليرة على الأقل في بنود غير مخصصة يفترض الاقتصاديون انها لأغراض عسكرية. وفي محاولة للحد من تراجع الإيرادات خفضت السلطات الغرامات على التهرب من الجمارك لتشجيع رجال الأعمال على سداد ما عليهم وعرضت تخفيضات ضريبية لتشجيع دافعي الضرائب. كما حافظت على تدفق بعض السلع المدعومة للمناطق التي يسيطر عليها المعارضون على أمل استعادة السيطرة عليها. وقال سمير عيطة وهو اقتصادي سوري بارز مقيم في فرنسا "حتى في الوقت الذي تقصف فيه الطائرات المدن السورية مازال النظام يحاول كسب ولاء الشعب." وفي مناطق يسيطر عليها المعارضون في حلب في شمال سوريا يقول اقتصاديون إن عشرات الالوف من العاملين بالقطاع العام لم يتقاضوا أجورهم لانهم شاركوا في الاحتجاجات. وتقوم الحكومة بتكوين مخزونات سرية من المواد الغذائية الأساسية مثل القمح والسكر والأرز لاستخدامها عندما تحتاج لتعزيز التأييد الشعبي. وطرحت مزادات عديدة داخلية لشراء القمح والشعير في الاشهر القليلة الماضية لتضمن الحكومة الامدادات. ويقول رجال أعمال إن الهيئات الحكومية حدت من البيروقراطية كذلك لتسهيل شراء السلع من أوروبا الشرقة ومساعدة رجال الأعمال. وقال خليل طعمة المدير المشارك في شركة الاستثمار جاتسكو في سوريا "هناك الآن تقبل اكبر بكثير للتسهيل على الشركات من جانب الهيئات الحكومية." ويقول الاقتصاديون إن الاستثمارات في شق الطرق وغيرها من مشروعات البنية الأساسية توقفت بالكامل مع اتساع نطاق الصراع. وهم يقدرون أن تكلفة إعادة الإعمار قد تتراوح بين 40 و50 مليار دولار على الأقل. وأبلغ وزير المالية البرلمان في نوفمبر تشرين الثاني الجاري "إعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية في سوريا بحاجة إلى موازنة استثمارية يتم تأمين الاعتمادات اللازمة لها من خلال القروض الخارجية." وطلبت سوريا قرضا من روسيا لدعم اقتصادها ويقول الاقتصاديون انها تطلب ما يصل إلى ملياري دولار ولكن روسيا لم تعلق. ويقول الاقتصاديون إنه إذا فشلت دمشق في الحصول على مساعدات اقتصادية خارجية فإنها ستلجأ إلى طبع النقود ما يزيد من مخاطر التضخم الذي بلغ بالفعل 40 بالمئة على أساس سنوي. وذكر مصرفيون في دمشق في يونيو حزيران الماضي إن السلطات ضخت بالفعل نقودا جديدة طبعتها في روسيا لضمان دفع أجور العاملين في الحكومة لكن البنك المركزي ينفي ذلك. ويقول الاقتصاديون إنها قد تضطر لطبع النقود على نطاق أوسع. وقال سعيفان "إذا لم يحصلوا على قروض كافية من حلفائهم في روسياوإيران سيطبعون النقود وسيقفز سعر الدولار من مئة إلى 200 و300 ليرة." وأضاف "الدولة تخشى من طبع النقود لأن ذلك يوجد قنبلة اجتماعية موقوتة ... لكنها قد تضطر إلى ذلك لدفع رواتب الجيش." (الدولار يساوي 70.6 ليرة سورية) (إعداد لبنى صبري للنشرة العربية - تحرير منير البويطي)