فجرت روح التحدي في الكفاح المسلح بغزة المشاعر في شوارع المدينة حتى أن دوي الصواريخ التي تنطلق من منصاتها في وسط المدينة يلقى تشجيعا من خلال صفارات الشبان وإطلاق أبواق السيارات فضلا عن هتافات احتفائية من مكبرات الصوت في المساجد تقول "الله أكبر". ومن إحدى السيارات القليلة التي تجاسرت على السير في الشوارع انطلقت أغنية تقول "اضرب اضرب تل أبيب!". غير أن الإيمان بالقضاء والقدر وليست نشوة النصر يفسر رد فعل أهالي غزة على الهجوم الجوي الإسرائيلي الذي بدأ يوم الأربعاء الماضي وشعورهم بأن التجربة التي يمرون بها ليست بجديدة عليهم ولن تنتهي عما قريب بغض النظر عن شدة معاناتهم. وجرى إعدام رجل في الشارع الأسبوع الماضي لاتهامه بالتجسس لصالح إسرائيل. وحذرت حماس من أنه سيتم التعامل بحزم مع كل من تسول له نفسه التلاعب في الأسعار محاولا استغلال نقص السلع الغذائية والأدوية في الفترة المقبلة. لكن المعاناة ليست بالأمر المستجد أو المفاجئ لسكان القطاع. ذلك أن غزة كابدت كل هذه الظروف من قبل ووطن اهلوها انفسهم على ذلك. ففي آخر حرب على القطاع والتي تضمنت هجمات جوية خاطفة وتوغلا بريا من جانب إسرائيل على مدار ثلاثة أسابيع في أواخر عام 2008 ومطلع عام 2009 لقي ما يزيد على 1400 فلسطيني حتفهم معظمهم من المدنيين بينما قتل 13 إسرائيليا. ودمرت جرافات الجيش الإسرائيلي العملاقة مناطق بأكملها في المدينة لإقامة موقع للمدفعية لدعم الدبابات وقوات الغزو. ودمرت مصانع وهدمت منازل خرسانية وبدأ أصحابها التعساء في الطهي على نار الحطب وسط الأنقاض. وفي مثل هذه الحالات تشتد الحاجة إلى الغذاء والمأوى وهو أمر لا يغيب عن فطنة سلطات حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة. ولا يكف زبائن الأكشاك القليلة التي لا تزال مفتوحة في سوق فراس بمدينة غزة عن ارتياد السوق للشراء وسط أزيز طائرات الاستطلاع الإسرائيلية دون طيار التي تحلق فوق رؤوسهم أو في ظل الغارات الجوية التي تشنها إسرائيل بين الحين والآخر. غير أن احتمال استمرار موجة القتال لأمد بعيد وشن إسرائيل غزوا آخر يلقي بظلال من القلق على المحال التجارية المغلقة والأسر التي تعاني من ضائقة مالية. وقال عاهد فضل (18 عاما) "عندما بدأ ذلك اشترينا ما يكفي أسرتنا من الغذاء لمدة أسبوع. فقد ينفد الغذاء أو يرتفع ثمنه كثيرا إلى حد يفوق طاقتنا. لا يمكن لأحد أن يقول متى سينتهي ذلك. فما الذي يمكننا فعله؟". وحاول مسؤولو شرطة حماس تهدئة المخاوف بتعهدهم بأن الإمدادات الحكومية والسوقية يمكنها الصمود في ما قد تكون جولة قتال عصيبة تمتد لأيام أو أسابيع وألقوا باللوم بشأن غلاء الأسعار على جشع التجار واستغلالهم. وقال تيسير البطش قائد شرطة حماس "تعتبر الشرطة الفلسطينية كل من يحاول من التجار الاحتكار أو رفع الأسعار شريكا للاحتلال في عدوانه وسنتعامل مع هذه الفئة القليلة من التجار بكل حزم." وأثارت هذه التصريحات قلق أصحاب المتاجر - الواقعين بين مطرقة ازدراء الزبائن الفقراء لهم وسندان الحكومة التي تشهد حالة حرب - من ألا يكون لهم ملجأ سوى تأكيد وطنيتهم وإلقاء اللوم على إسرائيل. وقال علي جاروشة وهو يقف أمام أجولته من الحبوب التي تحمل شعار منظمة إغاثة دولية "نثني على الحكومة لصمودها وموقفها." وأضاف "بالطبع تغيرت بعض الأسعار نظرا للوضع القائم ولكننا نحن الفلسطينيين شهدنا عدوانا أسوأ على أيدي إسرائيل وسنصمد." وبدا الثبات على وجوه المتسوقين المحتشدين حوله. وتقول الأممالمتحدة إن 80 بالمئة من سكان القطاع الساحلي يعيشون تحت خط الفقر وانخفضت القيمة الحقيقية للأجور بنسبة 10 بالمئة منذ عام 2005. وما الحرمان بأمر جديد على سكان غزة الذين ينحدر معظمهم من أسر لاجئين حتى أن أوقات السلم أيضا لا تجلب الرخاء لتلك البقعة التي تعد واحدة من أكثر بقاع الأرض ازدحاما بالسكان. لكن يبدو أن فترات المعاناة الشديدة كتلك التي تمر بها غزة اختبار لصمود القطاع المحاصر الذي تتوقع الأممالمتحدة أن يكون "غير قابل للعيش فيه" بحلول عام 2020 ما لم تكن هناك تنمية كبيرة في مجالي البنية التحتية والاقتصاد. ويسبب النقص طويل الأمد في الإمدادات الطبية المعاناة في وقت وصلت فيه حاجة سكان غزة لها إلى ذروتها ما يهدد بتأجيج سخط الأسر التي أصيب بعض أفرادها بجروح. وقالت أم أحمد - التي تقيم في غزة وأصيب ابنها بجروح في الهجمات - أثناء انتظارها في قلق بمستشفى في القطاع "ليس هناك أدوية كافية وفي هذه الحالة لا نعلم إلى متى سيظل الوضع على ما هو عليه." وثمة مشاهد مروعة تفوق حد الخيال. فقد عرض الأطباء جثة صبي يقول سكان محليون إنه قتل في غارة جوية إسرائيلية حاملين جثته وقد تدلت أطرافها أمام عدسات كاميرات وسائل الإعلام في غزة. ونقلت جثة صبي بعد ذلك بعيدا عن آلات التصوير واحترس المحتشدون أثناء مغادرتهم من الانزلاق في بركة الدماء التي سالت من الجثة على أرضية المستشفى. ولدى معاينة حجم الأضرار التي لحقت بأرضه فجر يوم الجمعة عقب هجمات جوية مدمرة شنتها إسرائيل لم يظهر على أبو شادي أحد سكان مدينة غزة أي انفعال. وقال وهو يقف بجوار حفرة عميقة "فوجئنا بأن الانفجار كان هائلا للغاية... لقد دمر محصول العنب وكميات من الحديد والأرض بأكملها. خسرنا الكثير حقا. ولكن في النهاية نحمد الله على بقائنا على قيد الحياة." من نواه براوننج (إعداد عبد المنعم درار للنشرة العربية - تحرير محمد هميمي - هاتف 0020225783292)