القدس (رويترز) - يجلس الرئيس الفلسطيني محمود عباس محاطا بمساعدين في مكتبه الرئاسي الواسع ويتحدث عن طموحه في انشاء الدولة الفلسطينية. لكن خارج مجمعه الرئاسي الفسيح على تلال بلدة رام الله في الضفة الغربية يبدو الواقع على الارض مختلفا إذ تبني إسرائيل على حلمه مستوطنات آخذة في التوسع. ومن رام الله إلى القدس على بعد 20 كيلومترا وفي كل انحاء الضفة الغربية تشهد المجتمعات الاستيطانية الجديدة المترامية الأطراف والتي تنتشر على التلال التي تهيمن على المشهد في المنطقة على التحول في الجغرافيا السياسية وتذكر بصراع عمره 64 عاما وبالخاسرين والرابحين فيه. وفي الوقت الذي يقاوم فيه عباس ضغوطا لاستئناف المحادثات بشأن الدولة قبل ان توقف اسرائيل بناء المستوطنات يقول بعض الفلسطينيين ان الوقت قد فات لتأمين ارض للدولة الجديدة وهو ما يرجع جزئيا إلى فشل سلفه ياسر عرفات في فهم تحدي المستوطنات عندما وافق على اتفاقية سلام مؤقتة منذ نحو 20 سنة. وقال الخبير الجغرافي خليل تفكجي - الذي نصح عرفات لكن الزعيم السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي قضى معظم حياته في المنفى لم يقدر ما وصلت إليه اسرائيل حتى مطلع التسعينات في استعمار أراضي الضفة الغربيةوالقدسالشرقية التي استولت عليها من الاردن عام 1967 - انه لن تكون هناك دولة فلسطينية. وقال لرويترز الاسبوع الماضي بينما كان ينظر في خرائط بلدات وبنى تحتية اسرائيلية تعتبرها الاممالمتحدة بناء غير شرعي على ارض محتلة ان الحقائق على الارض تشير إلى عدم وجود تماس جغرافي بين القرى والمدن الفلسطينة. وقال ان الاسرائيليين وسعوا المستوطنات وبنوا الجسور والانفاق وان هناك الان دولتين داخل دولة واحدة. وبعيدا عن احكام قبضتها على القدسالشرقية العربية تسيطر اسرائيل حاليا وبشكل مباشر على نحو 58 في المئة من الضفة الغربية بينما تدير السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة عباس بقيتها. وتركت اتفاقات اوسلو الموقعة عام 1993 للمفاوضين في المستقبل الاتفاق على "الوضع النهائي" لتقسيم الارض بين اسرائيل والدولة الفلسطينية. وترك الفشل في التوصل إلى اتفاق اسرائيل فعليا ترسم وحدها خريطتها المستقبلية. ويتفق نبيل شعث الشخصية البارزة في منظمة التحرير الفلسطينية ومفاوض السلام المخضرم مع تفكجي في رؤيته القاتمة بأن الحقائق على الارض تجعل اقامة الدولة مسألة اكثر صعوبة. وقال في رام الله مقر السلطة الفلسطينية على امل اقامة عاصمة وطنية فلسطينية في القدسالشرقية ان الفلسطينيين يخسرون كل يوم المزيد من الأراضي والسيادة. واضاف ان اسرائيل تنزتع كل ما يمكنها الاستيلاء عليه من الاراضي بهدف السيطرة على الوضع على الارض. وقال شعث انه يجب على اسرائيل ألا تغير الوضع الراهن على الارض خلال المفاوضات ويجب ان توقف بناء المستوطنات واي انتهاك لاتفاقية اوسلو. واضاف ان الاسرائيليين يريدون رسم خريطة تضم ما ينتزعونه من أراض. ويقول تفكجي ان تقاسم القدس مع اسرائيل ربما كان ممكنا قبل نحو عشر سنوات لكنه يقول ان الموقف تغير بسبب سياسة توطين اليهود في القدسالشرقية وحولها بما في ذلك في المدينة القديمة التي تضم اماكن تقدسها ثلاث ديانات إلى جانب خطوات قانونية لمنع السكان الفلسطينيين في القدس من العودة إلى المدينة إذا قد عاشوا فترة في الخارج. وقال ان تقسيم القدس اليوم مستحيل مشيرا إلى انتقال المستوطنين إلى مساكن في الاحياء التي تقطنها اغلبية عربية. ويصر الفلسطينيون على ان القدسالشرقية ستكون عاصمة الدولة التي يطالبون بقيامها على اقل من ربع مساحة فلسطين تحت الحكم البريطاني قبل قيام دولة اسرائيل عام 1948. وتدعم الدول العربية حلمهم الوطني الذي تقف وراءه طموحات مليار مسلم في استعادة السيطرة على المسجد الأقصى. لكن بالنسبة للاسرائيليين فإن المدينة - التي يطلق عليها بالعبرية اسم اورشليم - بالكامل هي العاصمة "الابدية والموحدة" للدولة التي حلم بها اليهود طوال شتات استمر الفي عام. وأيد حزب ليكود الحاكم بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مفهوم اوسلو بشأن "حل الدولتين". لكنه يرفض تقسيم القدس وبينما هو مستعد لاعادة رسم الحدود والتخلي عن بعض المستوطنات فهو يريد أن تحتفظ اسرائيل بسياج امني حول الضفة الغربية للابد. ويرى تفكجي أن مشروع الاستيطان الآن قد قضى على عملية اوسلو وعلى الامال التي أثارتها في التوصل إلى حل سلمي ينهي الصراع بين العرب واليهود حول كيفية اقتسام الارض. وتبدأ القصة في عام 1978 عندما قدم ماتيتياهو دروبلس رئيس وحدة الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية اول خطة شاملة لانشاء مستعمرات في أنحاء الضفة الغربية بعدد سكان من المستهدف ان يصل إلى مليون شخص. وبالنسبة لكثير من الصهاينة الذين احبطهم تقسيم فلسطين عام 1948 كان انتصار اسرائيل في حرب 1967 الفرصة الملائمة لبناء دولة أكبر على الارض كلها. وكانت خطة دروبلس بالنسبة لمنطقة المرتفعات الممتدة لنحو 60 كيلومترا إلى الشمال والجنوب من القدس والمعروفة عالميا باسم الضفة الغربية في حين تطلق عليها اسرائيل اسم يهودا والسامرة تتضمن نشر مستوطنات يهودية على طول التلال حول البلدات والمدن الفلسطينية. وبعد ان وصل عددهم اليوم إلى نحو 340 الف شخص بزيادة بنسبة 4.3 في المئة في العام الماضي يضم سكان المستوطنات خليطا من سكان يرون الضفة الغربية بديلا سكنيا رخيصا ويمكن التنقل منه بسهولة إلى تل ابيب أو القدس وآخرين يعتبرون انفسهم روادا يمارسون حقوقا تاريخية في هذه الاراضي. وبينما لا تستهوي كثيرا من الاسرائيليين فكرة المستوطنات التي لا يزورها إلا القليل منهم فقد اكتسبت حملة التوسع الاستيطاني دفعة حقيقية في مطلع الثمانينات عنما وضع وزير الدفاع حينها ارييل شارون خطة كبيرة تعرف باسم الامر العسكري رقم 50. ثم امر شارون بعدها عندما اصبح زعيما لليكود بانشاء شبكة طرق داخل وحول القدس ربطت بين المستوطنات وفصلت القرى والاحياء العربية عن بعضها. وقال تفكجي ان الحدود الخارجية لما اصبح الان اكثر من مئتي منطقة منعزلة تحت الادارة الفلسطينية رسمت من خلال مسارات شبكة الطرق السريعة التي لا يسمح سوى للاسرائيليين بالسير عليها. وطور شارون عندما اصبح وزيرا للاسكان خطة جديدة لضمان السيطرة على القدس قبل بدء تنفيذ اتفاقية اوسلو عن طريق تطويق القدسالشرقية بأربع كتل استيطانية كبرى تطل من فوق تلال الضفة الغربية والتي يشبهها البعض بالقلاع التي بنيت خلال حقبة الحروب الصليبية. وقال شارون امام البرلمان عام 1991 شارحا خطته "وضعنا أمامنا هدف ضمان أن تكون في القدس عاصمة اليهود والعاصمة الابدية لاسرائيل اغلبية يهودية. "نحن نمضي الان برؤية واسعة للغاية بأن يكون في منطقة القدس الكبرى مليون يهودي." واليوم يمثل اليهود نحو ثلثي سكان بلدية القدس البالغ عددهم 750 الفا من بينهم نحو 200 الف في القدسالشرقية حيث يعيش نحو 250 الف فلسطيني. ويرى تفكجي من وجهة نظر فنية لا سياسية ان شارون نجح في خطته مؤكدا أنه يرى أن حلم الدولة الفلسطينية بات مستحيلا بالنظر إلى الحقائق على الارض. وقال ان عرفات الذي قدم له تفكجي المشورة خلال محادثات اوسلو والذي توفي عام 2004 لم يفهم جيدا مدى طموح المشروع الاستيطاني وحجمه وقال انه يعتقد ان عرفات عندما دخل المفاوضات لم تكن لديه اي فكرة عن حقائق او مستوطنات. ووافق عرفات في اوسلو على ترك مسألة تسوية مصير المستوطنات لمفاوضات الوضع النهائي. ويقول تفكجي ان الاسرائيليين لم يوقفوا بناء المستوطنات حيث بنت اسرائيل منذ ذلك الوقت 38 الف وحدة سكنية على الاراضي المحتلة. وقال تفكجي انه قال لعرفات ان الدولة الفلسطينية لم تعد ممكنة وتوقع ان يقوم الائتلاف الحاكم الجديد بزعامة نتنياهو بتعزيز سيطرة اسرائيل على القدس وحولها لتصبح الضفة الغربية كالجبن السويسري. لكن رؤية تفكجي ليست محل اتفاق من الجميع حيث يقول بعض الدبلوماسيين في المدينة ان من الممكن تصور وجود عاصمة فلسطينية منفصلة في القدسالشرقية. والخرائط موجودة لتوضيح خطط لشق مسارات للنقل العام تقطع الاراضي "الاجنبية" من خلال شبكة من الجسور والانفاق تربط مناطق ببعضها. لكن الجميع تقريبا يرون ان الوقت ينفد بسرعة حيث يؤدي البناء الاستيطاني إلى الجنوب من المدينة باتجاه بيت لحم إلى زيادة عزل الاحياء العربية. وقال عباس لرويترز انه لن يعود إلى المفاوضات قبل ان توقف اسرائيل انشطتها الاستيطانية. وقال ان على نتنياهو ان يدرك ان الاستيطان يدمر آمال السلام وانه يجب ان يتوقف. ويقول رئيس الوزراء الاسرائيلي ان حكومته تبني مستوطنات اقل من الحكومات السابقة ويقول ان البناء الجديد يتركز على توسيع احياء في مستوطنات قائمة وليس على انشاء مستوطنات جديدة. ويؤكد مكتبه ايضا ان المستوطنات الفعلية تمثل ثلاثة في المئة فقط من مساحة الضفة الغربية الاجمالية. لكن خبراء خرائط اسرائيليين يقولون ان هذه المجتمعات اليهودية تهيمن على ما يصل إلى ما بين ثمانية وعشرة في المئة مع احتساب الاراضي الصناعية والزراعية التي تخضع للسيطرة اليهودية المباشرة. ويقول نتنياهو ان هذه المسألة يجب ان تحل من خلال المحادثات المباشرة لكنه لم يعط اي مؤشر على استعداده لقبول الشروط الفلسطينية بوقف بناء المستوطنات قبل استئناف المفاوضات. ويميل دبلوماسيون غربيون في المدينة إلى الاتفاق مع عباس على ان المستوطنات عقبة رئيسية امام المفاوضات. ويقولون انه ليس من الصعب استنتاج ان اسرائيل تسعى عمدا إلى تقسيم الضفة الغربية إلى "كانتونات" فلسطينية منفصلة. وقال دبلوماسي رفيع "المستوطنات تدمر اي ثقة لدى الجانب الفلسطيني بأن (الاسرائيليين) جادون وتؤدي إلى تقويض التعاطف الدولي بشكل كامل." (إعداد ابراهيم الجارحي للنشرة العربية - تحرير مصطفى صالح)