وكأن الأقدار لم ترد خيراً بجماهيرنا الرياضية المظلومة والمطحونة.. وكأنها غاضبة عليها مخاصمة لها.. وربما هذه الجماهير لا تستحق نظرة رضا أو بسمة أمل.. فكلما اقتربت الجماهير من الانفراجة وباتت علي وشك تحقيق غايتها المنشودة بالتواجد في المدرجات لممارسة هوايتها المحببة كلما وقع ما ينغص عليها حياتها ويعيدها من جديد إلي حالة التوقف والتجمد والركود ويبعدها عن الاستادات والملاعب والمدرجات.. بل ويمنح المسئولين عن الأمن المبررات للتمسك بموقفهم من الإبقاء علي المدرجات خاوية خالية ينقع فيها البوم ويمرح فيها الغربان.. وإذا كان قدرنا أن نذعن للأوامر والتعليمات الأمنية والشرطية.. فإن علينا أيضاً أن نتحسر علي المستوي المزري والأخلاقيات المتدنية التي أصبحنا عليها وفرقت ليس بين الفصائل المتنافسة وجعلتها أقرب إلي الشرائح المتناحرة.. وانما أيضاً شتت ومزقت بين أعضاء الفصيل الواحد فتراشقوا بالشماريخ وتصادموا بالصواريخ ووقع بينهم المصابون وانسكبت علي المدرجات الدماء الذكية لتحولها إلي ساحات قتال وميادين نزال وليس حول الأبسطة الخضراء التي تشرق بالنور وتبعث علي الارتياح. ما وقع باستاد الجونة يوم السبت قبل الماضي بين الجماهير العاشقة للزي الأحمر كله مهزلة ومسخرة ومأساة جمهور واحد ذهب للبحر الأحمر قاطعاً الأميال والفراسخ ليس ليشجع فريقه ويحفز لاعبيه وانما ليتعارك ويتقاتل ويتصارع.. ومهما كانت المبررات والأسباب والدوافع وسواء أكان الباعث علي هذا الصدام الاختلاف حول العقائد السياسية أو الأمور التشجيعية فانه غير مقبول أو معقول مطلقاً.. لقد أصبحنا اضحوكة أمام جماهير العالم المتمدن والمتحضر.. انظر إلي مدرجات ستاد برنابية أو مونبيليه أو ويمبلدون والتي تعج مدرجاتها بعشرات الآلاف ولا يفصلها عن الملعب لا أسلاك شائكة ولا كلاب بوليسية ولا مدرعات حربية وتزخر بالجماهير الواعية الرشيدة المتحمسة والمتحفزة لكنها تمارس حقوقها دون الخروج من القواعد والأصول ولو حدث وإن خرج واحد فقط عن هذه القواعد ارتجت الدنيا واهتزت الأركان وتم سحب المتهور أياً كان مكانته ومهما كانت درجته وعوقب وحوسب دون أن يتعاطف معه أحد أو يتوسط له مخلوق أما نحن فنمارس كل أنواع السخف والحمق والانفلات والتعصب والتهور والاندفاع.. ولم يعد لدينا أي حق في أن نطالب بالسماح للجماهير بالعودة للمدرجات. صدر منا هذه المطالبات وتلك المناشدات لقال عنا المسئولون إن لدينا بجاحة بل وقاحة في مطالباتنا.. فإذا كان الفصيل الواحد لم يعد قادراً علي احترام نفسه.. فما بالك بالفصائل المتنافسة.. لا يمكن لزي متفائل أن يضمن ما يحدث أو أن يساند أي موافقة علي عودة الحياة للمدرجات.. انها حياة تفضي إلي الموت.. أي أنها طريق سريع للنهاية.. ولا أعتقد أن بمقدورنا أن نلوم إلا أنفسنا.. لقد ذهب بي الغيظ مبلغاً عميقاً عندما تابعت تصريحاً لمدير أمن الاسكندرية وهو يؤكد عدم موافقته علي استضافة أية مباريات للأندية ببرج العرب.. ساعتها قلت في نفسي إن الرجل متغطرس ومتكبر "وعفيجي".. لكنني بعد حادثة الجونة الأليمة تراجعت في أحكامي وقلت إنه رجل رشيد يسعي لعدم وقوع خسائر في ثروتنا البشرية.. تلك الثروة التي يشعر بها كل من يعرفنا وبجهلنا نحن نبعثرها ونشتتها في الصدامات والصراعات المتبادلة.. كنت أبدي إعجابي الشديد بالمسئولين عن الجونة ومرافقه.. ولم يقل هذا الإعجاب عندما أعلن أحدهم أنه من الان فصاعداً لن يستقبل ستاد الجونة أية مباريات للأهلي والزمالك وليذهب الناديان للدول المجاورة الصديقة أو حتي العدوة لاستئذانها في استضافة مبارياتهما.. لقد هنا علي أنفسنا فهنا علي الآخرين الذين ينظرون إلينا باستخفاف وازدراء واشفاق.. الأمور تحتاج لمراجعة النفس.. الأحوال تقتضي محاسبة الذات لابد أن نتخلي عن الحمق والحقد والتعصب والتحزب.. لابد أن نحترم أنفسنا ونفرض احترامنا علي الآخرين.. لابد أن تختفي بيننا الرغبة في الصدام والعراك والقتال علي أتفه وأدني الأسباب وإذا لم نتمكن من العودة سريعاً إلي ما كنا عليه في عام 1986 يوم البطولة الافريقية التي كانت مدرجاتنا يومها عبارة عن صورة حضارية وريادية رائعة.. فلتذهب الرياضة جميعها إلي الجحيم.. ولنعتزل كرة القدم التي تجعلنا مسخة بين الشعوب والأمم.. وربنا يشفي.