افتقد كثير من أبناء جيلى صداقة تجمعهم بآبائهم.. وأصبحت فى حلوقنا غصة إلى اليوم حتى بعد رحيل الآباء وبقينا بعدهم ننتظرالرحيل.. لم يكن تمردا على أشخاص أو حتى على معنى بل كان ظرفا عايشناه ثم حولناه -الأب والإبن - إلى أمر واقع مع احتفاظ كل منا بمسافة كافية عطفا وحنانا منهم وإحترامأ وتقديرا منا لا نتنازل عنها تحت أى ظرف . ولم يكن معنى " الواد الجلباب " فى " لن أعيش فى جلباب أبى " قد تبادر إلى أذهاننا على الإطلاق فقسوة الحياة كانت كفيلة بصرفنا عن التفكير فى مثل هذه الرفاهية . ولم يكن إحترامنا لآبائنا إحتراما شكليا فلا ندخن أمامهم ولا نضع ساقا على ساق فى حضورهم بل لم نكن ندخن على الإطلاق ولا نضع ساقا على ساق لا فى حضورهم ولا فى غيابهم ومع هذا بقيت المسافة على حالها لا ضاقت ولا اتسعت. تغيرت الحياة ومعها الأدوار وأصبحنا آباء لأبناء فى عمر الزهور وحاولنا تضييق المسافة حبا وصداقة ولكن يبدو أن الأمر صعب . كانت حياتنا رغم تواضعها ممتعة مبهجة بينما حياة أبنائنا على رفاهيتها مريحة وادعة . فوسيلة المواصلات الدائمة "على الأقدام" – أون فوت - . وكرة القدم الوسيلة الأرخص والأقرب للممارسة وإفراغ الطاقة التى هى كامنة . فبسهولة يمكنك إنشاء مرمى بشوية تراب نعملهم كومة هنا وكومة هناك وفوقهم مداس – حذاء - ذو لون مميز لأصحاب العشى الليلى ونسمى كل كومة – عرضة - وتبدأ المباراة وتنتهى بدون أى تنظيم مجرد طحن فى طحن وفى أى مكان الشارع أو الغيط . وأحيانا وكما فى السياسة يفرض" واحد رخم " نفسه علينا فإذا رفضناه قام بهدم الملعب أيوه هدم الملعب بالكامل فلم يكن الملعب سوى هذه العُرَض، أما أبناؤنا فلا يتحركون إلا فى سيارة وحتى لو كانت المسافة قصيرة لاتستدعى ولهم ملعب بحق وحقيق– قوائم وعرضة حديد وشبكة إيش إيش–وحكم للمباراة وتنظيم على مستوى عالى . ولاأذكر أننى تعلمت فى مدرسة " بجد " فالمدارس الإبتدائى والإعدادى التى تعلمنا فيها كانت بيوتا كبيرة قديمة خصصها أصحابها للتعليم . أما الآن فالمدارس لها هيئة تُعنى بها فضلا عن المدارس الخاصة فهى أكثر بهاء فى شكلها وتصميمها . نحن أكثر منهم محاولة وهم أكثر منا جرأة . كانت تقيدنا حواجز من الظروف والعرف والتقاليد تدفعنا دفعا لتحديها وهم أصحاب سماوات مفتوحة تجعل الصعب عليهم بقليل من المحاولة جائزا وممكنا. لعل الفارق بين المتعة والبهجة التى عشناها والراحة والدعة التى يعيشونها أو بين جيل وجيل قد باعد المسافة بيننا بل هى فى سبيلها أن تصبح هوة سحيقة " التعليم " السبب الأول فيها فمطالبتهم بالتعلم أو بالأحرى التفوق قد خلق حالة دائمة من الإحتقان بيننا لاحل لها إلا بإلغاء التعليم أو بإلغائنا نحن . فالحرص الزائد على مصلحتهم قد أضاع الكثير من الود بيننا وبدلا من صداقة لم نذقها فى صغرنا وأردناها فى كبرنا أصبح الواحد فينا " بابا أبو ِوش كِشر "– استعرت التعبير من صديق يشكو نفس الشكوى وبنفس المرارة – وأصبح الكر والفر منهجية نستخدمها فى بيوتنا بدلا من الود والصداقة . أنا شخصيا قررت أن أبقى على علاقتى بهم خطا أحمر لا أقترب منه بغض النظر عن التفوق من عدمه. ولا أعنى تجاهل التعليم بل جعلت الأولوية للعلاقة الإنسانية بيننا . لاأقصد علاقة الأبوة بل أقصد معنى يقترب من الصداقة وإن لم يصل إليها . وأنصح كل أب بفعل هذا فهناك أشياء إن فاتت لن تعود ولن تعوض فلحظة ود بينكما هى قيمة كبيرة لاتقدر . لحظة تنقل له فيها مخلصا وبغير أجر خبرة عمر وتوجيه خير لن يجده عند أحد غيرك ولن تجده أنت أيضا عند أحد غيره فهو قطعة منك تمشى على الأرض قد تكون قطعة عصية على التعامل ولكن لعله خطأك وأنت لاتدرى .