لم أنزعج عندما سألتني تلميذتي فجأة : هو حضرتك مسيحي ؟ ! و أجبتها متسرعا : هو فيه عمر مسيحي بذكائك ! بعدها وكانت أول مرة أسأل فيها تلميذة عن سبب هذا الانطباع الذي لم يكن الأول من نوعه لدى تلميذاتي .... أجابت لأنك تقول صباح الخير، مساء الخير وأشياء مثل هذه ! و تأملت فيما لم تقله وما لم أقله وما أوصلنا إلى هذه الحال . فما لم تقله أنك مدرس لغته مختلفة عما هو سائد، فأنت لا تقف كثيرا عند ما إذا كان غطاء الرأس ( الحجاب ) إنكشف بضع سنتيمترات أو خلع، أو إذا كانت الجيب انحسر ذيلها كاشفا ملليمترات من سيقان الفتيات ... أنت لا تكثرمن النصائح حول اهمية الصلاة، وكما تذكر المسجد في أمثلة الكتاب المقرر تذكر الكنائس بل ودور عبادة الديانات الاخرى ... تهتم بأشياء غريبة كنظافة الفصل وفناء المدرسة وتنهر من تلقي بمغلفات (البسكوت ) أو ( الشيكولاتة )على الارض !! و تركز على أشياء لا يركز عليها كثيرا الآخرون : مثل الصدق في التعامل، والإخلاص في العمل أو في العلاقة مع الآخرين، إحترام الجار وعدم إزعاجه فنحن لا نعيش وحدنا في البيت، أو في الحي السكني . وأن سلوك الإنسان أهم من مظهره لأنه في كثير من الأحيان لا يكشف مظهر الإنسان وردائه عن معدنه . وما لم أقله لها، إن اللغة السائدة والتي تعكس الثقافة المنتشرة في المجتمع لاتكشف الإمظاهر لخصها كثير من المثقفين : ( نحن عندنا تدين بلا دين ) أي نختزل الدين في المظهر والسلوكيات الظاهرة التي نخاطب بها الآخرين ولا تعكس الدين كقيم إتفق عليها كل المنتمين للأديان جميعها سماوية وغير سماوية مثل لا تكذب، لا تسرق، لا تؤذ الآخرين، لا تهمل عملك، لا تستغل ......إلخ ، وبنظرة واحدة إلى سلوكيات المجتمع حولنا أو في المدرسة نفسها التي تغطي أغلبيتها الساحقة من الطالبات فيها شعورهن بل وتزايد كثيرات على الزي بإرتداء الاسدال أو النقاب فوقه ...... ومن بين نفس التلميذات تكثر حوادث سرقة أجهزة التليفون المحمول، أو حافظات النقود، وفي أغلب الفصول، هذا غير الشجار بينهن وإستدعاء الاهل أحيانا لإستكمال الشجار مع الطالبة المتنازع معها أو أهلها ! ناهيك عن السلوكيات خارج المدرسة وما يحدث فيها من علو صوت أو ضحك هستيري أو ..... أو ..... إلخ. ما لم أقلها لها .... أني تربيت في حي لم يكن به وجود ملحوظ لجيران مسيحيين الإ أن منزلنا شهد علاقات وصداقات مع أسر زملاء مسيحيين لوالدي تناولنا الطعام معا وأنني شخصيا عندما درست التصوف الاسلامي بقسم الفلسفة بكلية اداب القاهرة تأثرت بالمتصوف المسلم محي الدين بن عربي وإيمانه بكل الأديان السماوية وغير السماوية لإيمانه بوحدة الوجود وصدق المشترك بين كل الأديان .. وكيف كان إحترامنا لزميلاتنا في الجامعة لم يكن مبنيا على ما ترتدين بل كيف تفكرن وتسلكن ... هذه ثقافة جيل أو غالبية من كانوا ينتمون إليه، وأني طامح لإعادة زمن كان المعلم فيه يشجع تلميذه الموهوب ليصبح أو تصبح كاتبا كبيرا أو موسيقيا مبدعا، أو عالما فذا والخروج من الدائرةالمغلقة التي تضم المعلم الذي لم يعد عنده وقتا ليكون ثقافتة العامة أو يطور قدراته المعرفية . أما ما أوصلنا إلى ذلك فهو التعليم .. موضوعنا الذي أصبح أغلبنا يجهر بأهمية وضرورة إصلاحه أو تطويره .. بل وكانت الكلمة المفتاح في أغلب المناظرات المذاعة تلفازيا بين الأحزاب في الانتخابات البرلمانية الأخيرة هي إصلاح التعليم من أجل النهوض ! بالطبع لا أختلف مع صراخ الجميع التعليم .. التعليم . وأن المسافة بيننا وبين دول مجاورة بعضها أصغر منا حجما وتاريخا أتسعت لغير صالحنا في مستوى التعليم وما يعكسه من تطور في جميع المجالات داخل هذه الدول .... فدوما يكون الحديث عن مشاكل أعتبرها مع عدد قليل من المهتمين بالتعليم فنية أو جزئية أو ليست الحلقة الرئيسية أو حجر الزاوية التي إن فككناها وحللنها نصل الى المبتغى والهدف وهو إصلاح حال التعليم المتدني، فرغم أهمية مشكلات الميزانية المخصصة للتعليم، والكتاب المدرسي والخارجي، وأحوال المباني وكثافات الفصول، وأحوال المعلمين المهنية والإجتماعية المتدنية، إلا أن المشكلة الأم تكمن في : ماذا نريد من التعليم ؟ وكيف ؟ أي في الفلسفة القائم عليها التعليم ” فلسفة المجتمع “، وفي السياسة التعليمية وأنحيازات هذه السياسة .. أي بمعنى أدق أن مشكلة التعليم في مصر سياسية .. ونأخذ تلخيص مفكر تربوي برازيلي – باولو فريري – لرأيه في التعليم : ” لا يوجد تعليم محايد، إما أن يكون التعليم أداة للقهر أو أداة للحرية ” فتعليمنا ينحاز للاغنياء في مواجهة الفقراء ... للأحادية في مواجهة التعدد والتنوع، للذكورية في مواجهة الإنسانية . ولو أمعنا النظر بالسؤال عن الهدف من تعليمنا ورصدنا خلال مخرجات العملية التعليمية ونواتجها في الواقع لأصابت بعضنا صدمة مما يرى، ولو سألنا أنفسنا : هل لدينا تعليما يخلق مشتركا بين أفراد هذا المجتمع بحيث تجمعهم فكرة أو رسالة، أو بصورة أخرى؛ هل لدينا تعليم يبني ويجمع، ما أراه ويراه معي للأسف كثر : أن تعليمنا عن قصد يقسّم ويفتت ويشطر الأمة ! فنحن لدينا رأسيا : تعليم للأغنياء وتعليم للفقراء يرتب ويسكن المنخرطين فيه إجتماعيا وثقافيا .. فتوجد مدارس مصروفاتها لا تتجاوز الخمسين جنيها في العام ومدارس أخرى تبدأ بالتجريبي والتجريبي المميز (حكومي ) ببضع مئات من الجنيهات، مرورا بمدارس اللغات الخاصة بالآف قليلة وصولا للمدارس الألمانية والفرنسية والامريكية ... إلخ التي تصل مصروفات بعضها في حدود معلوماتنا لأكثر من 20 الف جنية في السنة، فهل يعلم أبناء مدارس منشية ناصر بالقاهرة– لن نتحدث عن أقصى الصعيد أو أبناء سيوة – أن هناك مدارس بالقاهرة والجيزة بها حمامات سباحة ومضامير للخيل ( لتعليم الفروسية ) وهم في أشد الحاجة إلى نافذة بزجاج ليحميهم من برد الشتاء !! و انت عندما تتعامل مع خريجي هذه المدارس وهذه النوعية من التعليم ( الثانوية البريطانية والأمريكية ... إلخ ) لا تلاحظ في الغالب سوى مستواهم المتقدم في اللغات الاجنبية والباقي حدث ولا حرج – ركاكة في اللغة العربية ( اللغة الرسمية للدولة ) ضعف في المعلومات العامة كنظرائهم في المدارس الحكومية ... إلخ فكل ما يميزهم – أو غالبيتهم – أسلوبهم في الحديث كلمة عربي وثلاثة أفرنجية بإختصار نحن أمام أنصاف أو ثلاثة أرباع خواجات !! ولدينا نوعيا : ونتيجة لنفس السياسة التعليمية تعليم عام، وفني وديني ( ازهري) ومدني ( متدين ) وحتى الهدف الذي من أجله زادت أعداد المدارس الفنية خاصة الصناعية في الستينات لخلق شرائح فنية متعلمة في المصانع ضاع مع سياسات الخصخصة والسوق المفتوحة وإنتهى إلى جراج للتعليم العام يزيد أعداد المتعطلين عن العمل بلا خبرات ولا مهارات ويطلقهم كجيش من الباعة الجائلين أومندوبي الإعلانات !! كما وهو الأخطر لدينا أفقيا : تعليم يخاطب المسلم أما غير المسلم أو المسيحي فله الرب ! وهو نتاج سياسة تعليمية لا ترى عن قصد خطورة أن لا يجد كل أفراد المجتمع أنفسهم فيما يدرسون، وهي سياسة لم تحدد عن قصد البحث عن المشترك أو عن الحد الأدنى من الثقافة التي تجمع الوطن بعيدا عن الولاء السطحي لوطن ملخصا في السلطة والنظام أو الحزب الحاكم أو الحاكم نفسه الذي تهتم إدارة كل مدرسة بتعليق صورتة مع صورة العلم على جدران واجهة كل فصل، في ظل جهل وتجهيل شديد بكل رموز الامة الثقافية والفكرية والتاريخية . وهو الأمر الذي لا يحدث في العالم بإستثناء شديدة التخلف منها والتي تشخصن الوطن في حكامه ! المهم في هذه الزاوية إنك عندما تشاهد الطالبات المسيحيات خارج الفصول وحدهن في الطرقات المدرسية والفناء تعرف أن زملائهن المسلمات عندهن حصة دين وقد تم إخراجهن من الفصول وفي الغالب لا يوجد من يدرس لهن الدين المسيحي ... إلخ وأنك في كل المواد الدراسية حتى التربية القومية وبها دروس عن الوحدة الوطنية، ودعاوى ضد التعصب الخ إستشهادات بآيات من القرآن ولا يوجد إستشهادا واحدا بآية من الانجيل أو آية من كتاب مقدس آخر !! إن ثقافة الفريق الواحد شاعت في مجتمعنا في العقود الاخيرة ليس بين أبناء الديانات المختلفة فقط ..... فمنذ أكثر من عام قرأت خبرا منزويا عن زيارة رئيس النادي الاهلي لمشجع زملكاوي في المستشفى يعاني من حروق شديدة نتيجة لتعرضه لحادث إحراق من مشجعي الاهلي ( الألتراس ) في طرقات مجمع الصلات بإستاد القاهرة بعد مبارة في كرة السلة !! لم تهتم الصفحات الرياضية إلا فيما ندر بهذا الحدث، والذي كان الرد الطبيعي له بعد حوالي عام من حادث إقتحام ألتراس الزمالك ” لصالة الأهلي المغلقة بالجزيرة بعد مباراة في كرة اليد وتحطيم بعض المنشآت وما تلاه من عراك شديد بين مشجعي الفريقين في شوارع المهندسين .. وطبعا في كل مبارة للأهلي في الاسماعيلية معروف ما يحدث قبل وبعد المبارة من إشتباكات وإعتداءات... إلخ . تعليمنا إفراز ثقافة مجتمعية بالمشاركة مع الدعاة الجدد ومشايخ كثير من الزوايا والمساجد جعلت من المناخ العام طائفيا وجعلت من الفرد لا يرى إلا نفسه في المرآة ولا يعترف داخله إلا بنفسه أو شبيهه، وهو الأمر الذي جعل من حزبا معارضا للأسف ( مجمد أو موقوف الآن ) هو حزب العمل يضع لافتة منذ سنوات أمام مقره بالسيدة زينب تصف د. جون جارنج القائد السوداني الجنوبي بأنه عميل صهيوني وهو الذي كان ينادي بمشروع : سودان جديد موحد يتقاسم فيه السودانيون الثروة والسلطة، وبعد مصرع هذا القائد يتجه الجنوب السوداني الآن إلى الإنفصال بمباركة كل الاطراف حتى العربية منها !! ما يهمنا هنا هو أن قادة هذا الحزب إنطلقوا من موقفهم هذا على أساس أن القائد السوداني مسيحي وأن الحركة الشعبية التي يمثلها مسيحية ... إلخ ولم يتحروا الدقة في أن الجنوب السوداني غير عربي ( عرقيا ) وأن 90% من سكانه يدينون بديانات طبيعية ( يطلق عليها أصحاب الكتب السماوية : وثنية ) وأن الحركة الشعبية التي ينتمي اليها القائد الموصوف بالعميل تضم قادة شماليين ومسلمين أيضا !! و أن مشكلة الجنوب السوداني كغالبية المناطق الجنوبية في دول كثيرة تعاني من تهميش وتجاهل واستبعاد لحقوقها في الثروة والسلطة في بلدانها . ولو استبعدنا سوء النية لدى قادة الحزب المصري المعارض فإن السبب الوحيد الذي بات يلوح لنا مفسرا هذا الموقف هو الثقافة السائدة الأحادية التي ترى كل النقائص في المختلف معك في الدين أو العرق أو النوع ( ذكر وأنثى ) أو في الذوق الرياضي ( النادي الذي تشجعه ) وهي ثقافة يعد أحد المسئولين عن أستمرارها وإستفحالها : التعليم الذي نترك موضوعات هامه فيه كالقراءة أو التاريخ مثلا، أو كتب ممكن بالاهتمام بها تصبح هامة ككتاب التربية القومية في أيدي موظفين أو أكاديميين بعضهم متعصب أو ممن لا يهمهم سوى رضاء رؤسائهم عنهم ... ونترك أدباء ومثقفين بارعين في الاسلوب وجذابين في طرق عرضهم لموضوعاتهم ومؤمنين برسالة نهوض المجتمع ووحدة حلقات التاريخ وأهمية تماسك أفراد هذا المجتمع في وحدة واحدة، وجدلية الوحدة والتنوع وأهميتها لتطوير وتماسك المجتمع. هذه رسالة في أخلاقيات السياسة ترى في أن التعليم لا يرسخ قيما تجعل من التزوير في الانتخابات جريمة أو أن الاختلاف في الرأي من طبائع الامور، أن المعارضة للحزب الحاكم ليست كفرا أو مروقا .... وأن أساس الفساد والإفساد يبدأ من تعلم قيمة النفاق للسلطة .... أي سلطة في المدرسة أو في الحكم .......