يستقبل الواحد القصص التى تحكى عن ضباط شرفاء بالروح نفسها التى يتمسك بها الغريق بطوق النجاة، يفرح بالقصص وينقل لأصدقائه ما تحكيه الناس عن مأمور قسم الأزبكية الذى طارد ووقف فى منتصف الشارع بمفرده يواجه بلطجية شارع عبد العزيز، أو الضابط الإسكندرانى الذى تصدى من أسبوع لبلطجية شارع سعد زغلول بمفرده وسط تهليل الناس وتشجيعهم، أو الضابط الشاب الذى ظل يطارد لص السيارات المسروقة إلى أن أصابته طلقة أدت إلى استشهاده. كل هؤلاء وآخرون مثلهم لهم كل التقدير والاحترام بإخلاصهم لمهنتهم ولمجتمعهم وبقدرتهم على إقناعنا أن الأيام القادمة أفضل ما دامت صفوف الشرطة تعج بالشرفاء المخلصين. اليوم لدىَّ قصة جديدة متداولة فى وسط المرشدين السياحيين، سمعتها أكثر من مرة إلى أن أكدها لى أحد الأصدقاء الذين كانوا قريبين من الواقعة بحكم طبيعة عمله. الحكاية عن ضابط فى شرطة السياحة.. قلعة محمد على هى مقر عمله، يوم جمعة الغضب وإثر انسحاب جماعى للشرطة من كل أماكنها كان هو واحدا من قلائل تمسكوا بمواصلة العمل رغم كل الظروف الحرجة، التى كانت تشهدها شوارع مصر فى هذا اليوم، عندما اشتعلت الأحداث كان هناك وفد من السياح الأمريكان يزورون القلعة بصحبة أحد المرشدين، وعندما لاحظ الضابط الذعر الذى حلّ بالسياح رفض أن يسمح لهم بالخروج إلا بعد أن تهدأ الأمور تماما. ظل يترقب ما يحدث وتلقى أوامر الانسحاب، لكنه لم يستجب لها، كان الوفد يقيم فى فندق «ميريديان الهرم» وكان من المفترض أن يعودوا إلى بلادهم فى صباح اليوم التالى، الأمر الذى يعنى أنهم مضطرون إلى العودة إلى فنادقهم لجمع متعلقاتهم قبل أن يتوجهوا إلى المطار. كانت الأمور غير واضحة، وكان أى تحرك للوفد الأمريكى فى هذه الظروف غير مأمون العواقب، فاتخذ هذا الضابط قرارين.. الأول هو أن يقضى الوفد السياحى الليلة فى القلعة على ضمانته الشخصية.. فقام بنفسه وبمشاركة المرشد السياحى بتجهيز غرفة مبيت قسم الحراسات وتنظيف عنبر جنود حراسات السياحة بما تتضمنه هذه العملية من تغيير الملاءات وإعداد البطاطين وتهوية العنبر، وعندما أصبح العنبر وغرفة المبيت جاهزين لاستقبال الضيوف تجمعوا بداخله ولم ينس الضابط أن يوفر لهم الماء والطعام، وبالمرة جهاز تليفزيون. بقى من المهمة أن يجمع حاجات السياح من الفندق فى ظل حظر التجول والاضطرابات، فما كان منه إلا أن اصطحب فور شروق الشمس المرشد السياحى وأحد أعضاء الوفد فى سيارتين ملاكى وتوجهوا إلى الفندق وجمعوا حاجات السياح وعادوا بها إلى القلعة، وظل يترقب الوقت المناسب لتحرك الأتوبيس باتجاه المطار، وعندما شعر أن الأمور هدأت نسبيا رافق الوفد إلى أن وصل به إلى صالة السفر، ضرب له السياح الأمريكان تعظيم سلام وانصرف قبل أن يقدموا له الشكر الواجب. بعدها بشهور يحكى المرشدون السياحيون عن هذا الضابط الذى قطع طريق القلعة عندما اشتعلت أحداث الفتنة فى المقطم، وكان البعض يلقون من أعلى الجبل زجاجات المولوتوف والحجارة، وقف هذا الضابط بعرض الطريق، وكلما وجد أتوبيسا سياحيا استوقفه بركابه وأمره بالدخول إلى «باركنج القلعة» ظل طوال اليوم يطلب من الأتوبيسات السياحية أن تحتمى بالقلعة إلى أن تهدأ الأمور. أغلب الظن أن هذا الضابط كان ينفذ مهامه من تلقاء نفسه بدون تردد، بدون انتظار للتعليمات والتوجيهات. أنا لا أعرفه شخصيا ولم يسبق لى أن التقيتُه، ولكننى سمعت هذه القصص أكثر من مرة، وكنت أعتقد أنها تنطوى على مبالغة، إلى أن أكدها لى شخص أثق فيه -المرشد السياحى عادل جلال- الذى كان شاهدا على بعض هذه الأحداث. هذا الضابط محل احترام وتقدير العاملين بالسياحة، وهو نموذج نتمنى أن يكون هو القاعدة وليس الاستثناء. بالمناسبة.. اسمه العميد هشام غريب. المصدر : جريده التحرير