أما لهذه الفلول من آخر؟ سؤال أسأله لنفسى كلما حضرت اجتماعا رسميا أو خاصا، لأجد أغلب المتصدرين لحضوره من فلول النظام المباركى اللعين، وأغلبهم لم يكونوا مشاركين فى فساده وقمعه بالصمت والتواطؤ فقط، بل كانوا من المساندين بالقول والرأى والجهد. دعنى أعترف أننى أشعر بتناقض عندما أتحمس للمطالبة بعزل قيادات الحزب الوطنى عن الحياة السياسية، عندى يقين أن هؤلاء لو خاضوا معركة انتخابية تتوفر لها ضمانات الرقابة القضائية والحقوقية والشعبية والدولية سينهزمون شر هزيمة وسينكشف حجمهم الطبيعى دون أن ينالوا فرصة الظهور بمظهر المقموعين المحرومين من حقوقهم السياسية، لا أستطيع أن أنسى كيف كانوا ينجحون على الحركرك فى ظل تزوير مفضوح ومال مسفوح وأمن سنكوح، لذلك أثق بأن إرادة ملايين الثائرين ستحاصر كل هذه الوسائل وستمنعهم من اللعب بها فى المعركة الانتخابية، لكننى كلما شاهدتهم يتقافزون فى هذا المحفل أو تلك المناسبة، وهم يتحدثون عن تضحياتهم من أجل الوطن وكراهيتهم للنظام المباركى أجد أن ذلك اليقين يختفى تماما لتحل مكانه مخاوف من قدراتهم الشيطانية على تبديل الوشوش واللعب بالثلاث سلطات وتتملكنى رغبة عارمة ليس فقط فى عزلهم سياسيا، بل فى أن يلقوا مصير «المخلفين فى الأرض» الذين تحدث عنهم القرآن الكريم ولكن لمدة ثلاثين عاما، ولست واثقا أن الحال سينتهى بأغلب هؤلاء نادمين على أخطائهم كما ندم الثلاثة الذين خلفوا والذين أتقدم لهم بخالص الاعتذار للزج بمقامهم الرفيع فى تشبيه مع أصحاب مقام وضيع كقادة الحزب الوطنى. لست ضد حق الإنسان فى أن يحضر حفل عشاء فيأكل فيه كما يحلو له، ويبرطع بين الحاضرين موزعا سماجاته عليهم، لكننى أطالبه فقط بأن يجعل عنده دما يفترض أنه ورثه من دماء الذين خلفوه، فلا يجرؤ على التحدث باسم ثورة قامت لتطهير الحياة السياسية من أمثاله وكان يتمنى لها الفشل لكى تستمر مصالحه ومكاسبه. كل هذا قلناه لأنفسنا ونحن نشاهد أسئلة بعض رموز النظام المباركى وهى تنهال على رجب طيب أردوجان تافهة ومخجلة وكاشفة عن رغبة صاحبها فى أن يقول للجميع «أنا هنا ما زلت قادرا على الوجود رغما عن أنوفكم ولن أمنحكم فرصة الراحة من وجهى أبدا». قالت الأستاذة أهداف سويف معلقة «يبدو أن الثوار يمتلكون شجاعة إسقاط النظام لكنهم لا يمتلكون شجاعة الحصول على الميكروفون التى يمتلكها الفلول». عندما وصل اثنان من الثوار أخيرا إلى الميكروفون بعد طول عناء، قاما بتوجيه سؤالين للرجل كان كل منهما بمثابة توريطة سياسية أفلت منها ببراعة. كان السؤال الأول عما سماه السائل «الجمهورية الثانية» التى بدأ أردوجان الآن فى إرساء دعائمها وهو يواجه العسكر، وكيف يمكن أن تستفيد مصر من هذه التجربة؟ أردوجان بادر إلى نفى وجود أى خلافات بينه وبين المؤسسة العسكرية التى يقدرها الأتراك، نافيا أن تكون هناك أصلا جمهورية ثانية من أساسه. قال الدكتور عمرو الشوبكى المتخصص فى الشأن التركى لصاحب السؤال لو كان أردوجان قد وافقك أو حتى صمت على ما قلته لتعرض لأكبر أزمة سياسية فى تاريخه، فالحديث عن جمهورية ثانية خط أحمر فى تركيا التى يقدر شعبها مؤسس جمهوريتهم مصطفى كمال أتاتورك ويفخرون بها وبه. أخذت أتأمل فى إجابة أردوجان السياسية الحكيمة التى تبدو مهادنة لقادة الجيش التركى، وأتذكر صورته الشهيرة التى نشرتها وكالات الأنباء وهو يمشى منتصب القامة وخلفه يسير قادة المؤسسة العسكرية بعد معركة سياسية خاضها معهم انتهت بانتصاره، مستندا إلى إرادة شعبية كاسحة، قلت لنفسى هذا رجل تعلم من تجاربه جيدا، وأصبح يدرك أن أى معركة سياسية شائكة لا يمكن حسمها بنبل الشعار أو عظمة الأهداف، بل لا بد لها من عمل شاق وسط الناس. لا تتحدث عن رغبتك فى تغيير الواقع، اعمل على تغييره دون أن تتحدث كثيرا عن رغباتك وعندها فقط سيتغير الواقع. هل تعلم أن السؤال الذى تم توجيهه لأردوجان حول المرجعية الإسلامية لحزبه وأقامت إجابته الدنيا ولم تقعدها، لم يكن المقصود منه توريط أردوجان أبدا، بالعكس فقد كان سائله الكريم الدكتور محمد أبو الغار يطلب منه بحسن نية أن يوجه نصيحة إلى زملائه من أصحاب الأحزاب المصرية ذات المرجعية الإسلامية، وكان طبيعيا لمن يعرف تركيا جيدا أن يبادر أردوجان فورا إلى نفى أن يكون حزبه ذا مرجعية إسلامية أصلا، لكى يستطيع حزبه أصلا أن يكمل تصدره الساحة السياسية، مؤكدا احترام حزبه للنظام العلمانى الذى تقوم عليه الدولة التركية، وهو ما اكتفت أغلب الصحف بالتركيز عليه والحديث عن خيبة أمل التيار الإسلامى الذى هلل لأردوجان، وكان الأولى بالجميع أن ينقلوا نص إجابة أردوجان التى جاءت شديدة العمق وتحمل فى طياتها معانى كثيرة للراغبين فى التفكير والتغيير. تحدث أردوجان عن وجود معانٍ متعددة للعلمانية فى العالم تختلف من بلد إلى آخر، ومر عليها سريعا، مشيرا ضمن كلامه إلى مفهوم العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية الذى كتب عنهما أستاذنا الدكتور عبد الوهاب المسيرى كتابا من جزأين لم يهتم أحد بتبسيطهما وتقريبهما للناس، ثم قال إن حزبه عندما قرر اختيار مفهوم يناسبه للعلمانية اختار المفهوم الموجود فى الدستور التركى، وهو أن تقف الدولة على مسافة واحدة من كل الأديان، لكن ذلك لا يعنى نفى الهوية الإسلامية لقادة الحزب، فهم مسلمون كغيرهم من الأتراك، لكنهم لا يحكمون باسم الإسلام، لكى لا يتحمل الإسلام مسؤولية أخطائهم، بل يتحملونها هم كبشر. أخذت أستمع إلى حديث أردوجان وأنا أتذكره وهو يقف قبل سنوات ملقيا خطبة حماسية جلجل فيها بأبيات شعر تحن إلى تركيا الإسلامية وتطالب المآذن بأن تتحدث، ليدخل بسبب خطبته إلى السجن، وأخذت أقارنه بأردوجان الذى أراه الآن، تذكرت أننى لم أصادف طيلة علاقتى بتركيا التى يبلغ عمرها سبع سنوات مواطنا تركيا يحب أردوجان إلا وقال لى إنه يحبه لأنه «مسلم من أهل التقوى وزوجته محجبة ويعرف أن سرقة المال العام حرام». ولم أصادف مواطنا تركيا يعارضه إلا وقال لى إنه يكرهه لأنه يتاجر باسم الدين ويضحك على البسطاء ويتمسكن حتى يتمكن فيعتدى على حريات الناس ويسقط العلمانية التى ناضل أتاتورك من أجلها، لكن أردوجان لم يتوقف عند أقوال محبيه أو كارهيه، بل واصل هو وقيادات حزبه العمل وسط الناس، لاعبين على مساحة المسكوت عنه كما يجب لسياسى أن يلعب بذكاء، مترفعين عن الدخول فى متاهات التفاصيل، ومتعلمين من دروس الماضى التى أكدت لهم عبث مناطحة صخور الواقع الراسية، ومؤمنين بالقاعدة الشرعية التى تؤمن بأنه أينما وجدت المصلحة فثم وجه الله. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. المصدر : جريده التحرير