ستصرخ. نعم ستصرخ. وستطلب أن تتوقف السيارة. وستذهب إليه وتأخذه معها، لن يثنيها شىء عن ذلك. لم يعد لديها شىء لتخسره. ولكن لماذا تصمت! لماذا لا تخرج الصرخة من فمها! لماذا تمكث ساكتة! لماذا تجبن فى الوقت الأخير؟!. كانت جالسة فى المقعد الخلفى من السيارة أشبه بالميتة. هادئة، ضعيفة، مستكينة. منذ وفاة ابنتها الوحيدة وهى فى حالة صمت تام. فقط عينان زجاجيتان شاخصتان إلى ما وراء هذا العالم. هناك حيث ذهبت ابنتها الحبيبة. طارت مع الغمام والحمام الأبيض والملائكة. بجوارها فى المقعد الخلفى أختها تمسك بيدها فى عطف. وفى المقعد الأمامى يجلس زوجها الذى يبدو عليه السأم أكثر مما يبدو عليه الحزن. أسبوع مضى ولم تكد تأكل أو تشرب. أصرت أختها على نقلها إلى المستشفى. كانت بين أيديهم عجينة طيّعة. الآن وهى فى الأربعين من عمرها لم تستطع أن تُفسّر لنفسها لماذا تزوجت هذا الرجل؟ كانت تحيا فى عالم مخملى يزخر بالألحان والألوان. وكان رجلا عمليا يحيا فى العالم الواقعى. وسرعان ما أدرك كلاهما أنه اختار الشريك غير المناسب. كانت أقل كلمة تجرحها وتُبكيها ليلة كاملة. عشرون عاما انقضت على هذا النحو، لم يقطعها سوى إجهاضها مرتين قبل أن تنجب ابنتها الوحيدة التى ورثت رهافة أمها وضعفها. ثم نزيف حاد بعد مشاجرة دامية مع زوجها الذى كان قد سأمها فعلا، ترتب عليه استئصال رحمها وانتهاء فرصتها فى الإنجاب. توقفت السيارة عند إشارة المرور. وفجأة، لا تدرى ما الذى جعلها تفيق من ذهولها وتنظر من خلال زجاج السيارة المُوصد، وتراه!. كان طفلا صغيرا يمسك فى يده الصغيرة بضعة مناديل ورقية، وبالتأكيد لا يزيد عمره على ثلاث سنوات. لم تر منه إلا عينيه الواسعتين الملتصقتين بزجاج السيارة. عينان حساستان حزينتان مرهفتان، وكأن وجهه كله عينان! شرعت تنظر إليه فى أمومة وحنان. بادلها النظر فى رقة، وفجأة ابتسم فى وجهها! فبدا لها نضراً لعوبا يُغرى بالضم والتقبيل. تحولت إشارة المرور إلى اللون الأحمر. تضاءلت ابتسامة الطفل حين أدرك أن السيارة تتحرك، وبدا فى عينيه ظل من فهم وجزع. تحركت السيارة، تجاوزت الإشارة وبدأت تتأهب لتأخذ كامل سرعتها. وفجأة سمعت نفسها تصرخ وتطالبهم بالتوقف. ارتبك السائق وفرمل بشكل مفاجئ. فتحت باب السيارة وانطلقت تجرى وسط السيارات التى راحت تتفاداها، وأختها تهرول خلفها فى دهشة. مجنونة! هكذا صاح زوجها فى ملل! نعم مجنونة، والدليل أنها ستكفل هذا الطفل! ستربيه بدلاً من ابنتها التى طارت مع الملائكة والحمام الأبيض والغمام. هذا أول شىء معقول تصنعه فى حياتها. زوجها غريب عنها، وابنتها ماتت، وأختها ستساندها، وهذا الطفل ذو السنوات الثلاث يحتاج إلى أمومتها كما تحتاج هى إليه. وأخيراً.. وصلت إليه وسط زحام السيارات. حملته بثيابه المتسعة المهلهلة، فنظر إليها فى دهشة، ثم ابتسم. فخُيّل إليها أن ابنتها ابتسمت، وابتسمت معها الملائكة والحمام الأبيض والغمام. [email protected]