الشروق كان جمال عبد الناصر، بالإضافة إلى كونه شخصية عظيمة، رجلا سعيد الحظ. لقد ظهر الآن، بعد مرور ستين عاما على ثورة 1952، أن الخمسينيات والستينيات كانت فترة سعيدة في حياة العالم، وليس في مصر وحدها. طبعا يستطيع أي شخص أن يلفت النظر إلى أحداث سيئة حدثت في مصر والعالم في تلك الفترة، ولكنها من نواح كثيرة مهمة كانت فترة نادرة المنال، يصعب العثور على سابقة لها في التاريخ الحديث. كان العالم قد خرج لتوّه من حرب عالمية رهيبة راح ضحيتها ملايين من الناس، وأحدثت الكثير من الخراب، ولكن العالم تفاءل بالنجاح في القضاء على النازية والفاشية ، وبإنشاء هيئة دولية جديدة تعمل على توطيد السلام ، ومؤسسات دولية مالية تعمل على تجنب الأزمات الاقتصادية العنيفة، وبتعاون دولي لإعادة بناء ما خربته الحرب ، بل وتطلعت أوروبا إلى تحقيق وحدة اقتصادية تمنع بدورها من تكرار قيام حربين مأساويتين في أقل من خمسين عاما. تفاءلت أيضا دول العالم الفقير بقرب تحقيق استقلالها بعد أن خرجت الدولتان الاستعماريتان الكبريان وقد أنهكت قوتهما من جراء الحرب، وسلمتا زعامة العالم لدولتين كبريين أخريين أطلقت كل منهما شعارات صدقها العالم الفقير (الذي سُمى الآن بالعالم الثالث)، أو على الأقل اختارت كل دولة من دول العالم الثالث أن تصدق شعارات إحدى الدولتين الكبريين المناقضة لشعارات الأخرى. لقد حصلت الأغلبية العظمى من دول العالم الثالث على استقلالها من الدولة الاستعمارية القديمة (بريطانيا أو فرنسا أو بلجيكا أو هولندا أو ألمانيا أو إيطاليا)، ولكن انقسمت الدول المستقلة إلى فريق يصدق شعارات «العالم الحر» (التي رفعتها الولاياتالمتحدة) وآخر يتبنى شعارات الاشتراكية (التي رفعها الاتحاد السوفييتي).. لم يكن هذا الانقسام دائما نتيجة اختيار حر من جانب الدولة الصغيرة، ولكن شعوب العالم الثالث انقسمت بالفعل بين هذين النوعين الخلابين من الشعارات: إطلاق الحرية لنظام السوق بأقل قدر من تدخل الدولة ، أو نظام الدولة القوية التي تضع خططا للتنمية وتعيد توزيع الدخل بين الطبقات. كان نصيب مصر في الخمسينيات والستينيات تطبيق نظام الدولة القوية وتحقيق مزيد من العدالة في توزيع الدخل ، ولكن حسن الحظ تمثل في أن كلا من الدولتين الكبريين قبلت هذا الانقسام بين دول العالم الثالث عن طيب خاطر. كانت النتيجة فيما يتعلق بمصر أن حصلت على نحو عشر سنوات (56 1967) من حرية الحركة، طبقت خلالها نوعا من الاشتراكية دون أن تتعرض لها الولاياتالمتحدة بالمضايقات (بل استمرت الولاياتالمتحدة تمد مصر بالمعونات طوال هذه الفترة)، وأنجزت مصر بسبب هذه الحرية النادرة في التصرف، نتائج مبهرة في التنمية الاقتصادية وتحقيق مزيد من العدالة. ولم تكن مصر هي الدولة التي حققت مثل هذه الإنجازات، ولنفس السبب جلبت الحرب الباردة إذن (أو على الأقل تلك الفترة من الحرب الباردة) خيرا عميما لكثير من دول العالم الثالث، ولكنها اقترنت أيضا في أوروبا واليابان بفترة باهرة من النمو الاقتصادي لم يعرف العالم كله مثلها (من حيث ارتفاع معدل النمو) في تاريخه كله، كما صحب هذا النمو تطبيق ما عرف بنظام (دولة الرفاهة) التي عملت على تحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية. لن أخوض في الأسباب التي جعلت هذا التطور الاقتصادي المبهر ممكنا في العالم المتقدم والمتخلف على السواء، خلال الخمسينيات والستينيات، ثم أصبح غير ممكن، إلا باستثناءات قليلة هنا وهناك، في العقود الأربعة التالية. لقد ذكرت في المقال السابق كيف أن هذا التدهور الاقتصادي الذي حدث في مصر بعد هزيمة 1967، كان سببه حلول الدولة الرخوة محل الدولة القوية ولكن هذه الظاهرة لم تكن بأي حال مقصورة على مصر. لقد دخلت الدولة القوية في عصر من الأفول منذ أواخر الستينيات في دولة بعد أخرى من دول العالم المتقدم والمتخلف، ومازال هذا الأفول أو التدهور مستمرا حتى الآن. وأبسط تفسير لأفول دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في العالم ككل، هو صعود عصر الشركات متعددة الجنسيات. وهو تفسير على بساطته يمكن اعتباره تلخيصا صحيحا لأهم ظاهرة في التاريخ الاقتصادي للعالم في النصف الثاني من القرن العشرين. وهى لم تكن ظاهرة اقتصادية فقط، بل امتدت آثارها في مختلف نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. من الممكن تتبع آثار صعود ظاهرة الشركات متعددة الجنسيات على نمط الحياة في مصر في مختلف الميادين: في السياسة ذهب عصر الدولة التي تعمل لصالح الناس دون أن تزعم أنها دولة ديمقراطية، لتحل محلها دولة تتظاهر بالديمقراطية وهى دائمة التزييف لإرادة الناس والعمل ضد مصلحتهم. في الاقتصاد زادت معدلات البطالة وازداد التفاوت في توزيع الدخل، إذ كان كل هذا أكثر انسجاما مع الخضوع لنفوذ الشركات الدولية العملاقة من الفلس. زادت أيضا درجة التسلط التي تمارسها المؤسسات المالية الدولية (التي تعمل في الواقع لصالح هذه الشركات) على دول العالم الثالث (بل وعلى بعض الدول المتقدمة أيضا)، ففرضت عليها من السياسات مع ما يتلاءم مع متطلبات السادة الجدد، الذين أصبحوا يتمثلون في شركات أكثر مما يتمثلون في دول. نحن أيضا نعرف جيدا ما أحدثه هذا «الانفتاح» على الشركات متعددة الجنسيات من آثار على تطلعات الناس وأنماط السلوك، مما ظهر جليا في مصر منذ منتصف السبعينيات، مثلما ظهر في غيرها، ومازال يتفاقم حتى اليوم. نحن نعرف مثلا ما أحدثه التليفزيون من خلق تطلعات جديدة وإثارة تطلعات قديمة، نحو المزيد من استهلاك سلع وخدمات كانت تعتبر غير ضرورية فأصبحت ضرورية، أو لم تكن معروفة فأصبحت معروفة ومشهورة. وفى ظل هذه التطلعات يصبح من الصعب رفع معدل الادخار، ويتجه الاستثمار إلى إشباع طلب القلة الموسرة، على حساب الحاجات الأساسية لغالبية الناس، بل تشجع الحكومات على اتخاذ سياسات متهاونة في مجال إعادة توزيع الدخل، تسهيلا لتصريف السلع والخدمات التي تنتجها هذه الشركات. في ظل النظام الجديد تنخفض قدرة الحكومات في الدول الغنية على تقديم المعونات للدول الفقيرة، إذ تنتقل القدرة المالية بالتدريج من الحكومات إلى الشركات، وإذا بالاستثمارات الأجنبية الخاصة تصبح الوسيلة الأساسية بدلا من المعومات الرسمية، لتمويل التنمية في دول العالم الثالث. ولكن التنمية التي تكون هذه الشركات مستعدة لتمويلها مختلفة جدا عن التنمية التي تمول عن طريق المعونات الرسمية، هكذا تتحول التنمية إلى طريقة لإثراء البعض على حساب الأغلبية، ويفقد التخطيط أهميته، بل تكاد تتحول كلمة «التخطيط» إلى كلمة سيئة السمعة، مثلما حدث مع شعارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية. هذه الكلمات كلها أصبحت تتخذ كدليل على الجمود والتخلف الفعلي، إذ المهم هو زيادة الدخل بأي طريقة وفى أي صورة، لأن هذا هو ما يعنى مزيدا من توسيع السوق أمام الشركات الدولية العملاقة، ويضمن استمرار مستوى الأجور منخفضا. ومادام الأمر كذلك يصبح الهدف الأعظم هو زيادة القدرة على التصدير، تصدير أي شيء، ولو كان مواد أولية أو سياحة، إذ إن هذا هو الذي يزيد القدرة على الاستيراد، وزيادة القدرة على الاستيراد هي الهدف الأسمى للشركات الدولية. وهكذا تدخل دول العالم الثالث في منافسة فيما بينها، على جذب هذه الشركات إلى أرضها، فهي لم تعد فقط المصدر الأساسي لتمويل التنمية، بل هي أيضا التي تملك مفاتيح القدرة على التصدير بما تسيطر عليه من شبكات التسوق في مختلف الدول. وفى سياق هذه المنافسة على جذب الشركات الدولية، يصبح الانصياع لتوجيهات صندوق النقد الدولي ضروريا وحتميا. إن هذا الصندوق هو أدرى المؤسسات بما تريده هذه الشركات، ولديه الوسائل الكفيلة بإجبار الدول الصغيرة (وأحيانا الكبيرة أيضا) على تنفيذ توصياته حتى وهى تدرك بالضبط مغبة هذا كله. وفى سبيل ذلك يضحى بالدعم المقدم للفقراء، ويسمح لخدمات التعليم والصحة والإسكان بالتدهور إذ إن الأموال التي كانت تنفق في مثل هذه الأمور لا تفيد منها الشركات الدولية التي تريد من الدول ليس فقط تخفيض الضرائب، بل وأيضا تخفيض الإنفاق، فيما عدا الإنفاق على ما يفيد تسويق منتجات هذه الشركات، كالطرق والكباري التي تسمح باستيراد المزيد من السيارات، أو الكهرباء التي تسمح باستيراد المزيد من السلع المنزلية المعمرة.. الخ. هذا باختصار هو نمط التنمية الذي انتشر في العالم الثالث ابتداء من أوائل السبعينيات، ومازال مستمرا حتى الآن. وقد انضمت مجموعة جديدة من دول العالم «الثاني» ، التي كانت تطبق الاشتراكية من قبل، فخضعت بدورها لنفس النمط بعد سقوط حائط برلين في 1989، فتحولت دولة بعد أخرى من دول شرق أوروبا إلى هذا النمط من التنمية، تحت اسم «انتصار الديمقراطية»، بينما لا يزيد الأمر على الوقوع في نفس الفخ الذي نصبته الشركات متعددة الجنسيات للجميع وهى التي لم تعد تطبق عند زمنية معينة، أن ترى بلادا واسعة كالاتحاد السوفييتي لا تزال تقاطع سلعا مثل الماكدونالد أو الكوكاكولا، وبلادا غنية بالقوى العاملة المدربة، مثل بقية دول أوروبا الشرقية، يشتغل عمالها في خدمة المواطن البسيط بدلا من خدمة رأس المال الدولي. كان هناك الطبع مكسب حصل عليه مواطنو هذه الدول (الاشتراكية سابقا) في صورة حقوق الترشيح والانتخاب والمعارضة والتعبير الحر عن الرأي. ولكن الكثيرين (وأنا من بينهم) يعتبر الثمن الذي دفع للحصول على هذه الحقوق ثمنا باهظا، وهو أن يستبدل باحتكار الدولة احتكار الشركات الدولية، وبغسل المخ عن طريق الدولة، غسله عن طريق مختلف أجهزة الدعاية والتسويق التي تستخدمها هذه الشركات. ??? حدثت خلال العقود الأربعة الماضية بعض الاستثناءات المهمة، استطاعت فيها دول قليلة من دول العالم الثالث أن تنجو بنفسها من هذا الاستسلام للشركات الدولية العملاقة، وأن تحقق تنمية ناجحة لا تضحى بالمكاسب الاجتماعية، ولا بقوة الدولة، ولكن كان لكل من هذه الاستثناءات تفسيره الذي لا يدحض؟ في صفحة التشخيص المتقدم. كانت هناك تجربة ما سمى في السبعينيات بالنمور الآسيوية، وعلى الأخص تجربة كوربا الجنوبية، تلتها تجربة ماليزيا، وخلال ذلك كانت الصين تقوم ولاتزال بقفزات رائعة، ثم انضمت إليها الهند وتركيا. ولكننا لا نكاد نجد تجربة واحدة مماثلة في القارة الأفريقية، ولا في أمريكا اللاتينية، (فيما عدا بوادر مشجعة في السنوات الأخيرة في البرازيل) وفى الشرق الأوسط. من الممكن أن نفسر نجاح كوريا الجنوبية لظروفها الخاصة، والتهديد الذي كانت تمثله كوريا الشمالية. أما الصين فهي قارة بنفسها، تستمد قوتها من حجمها وثقلها. من الممكن أن نعثر على تفسيرات خاصة لحالة الهند، تتعلق بالحاجة إلى دعم قوة منافسة للصين، ولكن الارتكان إلى عوامل خارجية في تفسير تجربتي ماليزيا وتركيا ليس بهذه السهولة، وقد يكون من الضروري البحث عن عوامل قوة ذاتية في كلتا التجربتين، وربما أيضا في حالة البرازيل إن لنجاح تجربتي ماليزيا وتركيا بالذات، مغزى خاصا لحالة مصر، إذ يظهر فيهما بوضوح ما يتطلبه النجاح من استعادة الدولة القوية، كما هو الوضع في حالة مصر، دون وجود فوارق كبيرة بينهما وبين مصر في الحجم أو درجة الغنى بالموارد الطبيعية. نلاحظ أنه في كلتا التجربتين (ماليزيا وتركيا) حدث مزيج ناجح بين الدولة القوية، التي ترعى بدرجة عالية مصالح قليلي الدخل، وبين تشجيع القطاع الخاص، بين الاعتماد على القوى الذاتية واتخاذ الوسائل اللازمة لحماية الاقتصاد القوى وبين الانفتاح على العالم الخارجي فيما يتعارض مع هذه الحماية. كلتاهما تعترف بأهمية التخطيط وضرورته، دون الإفراط في المركزية ودون التقليل من دور الحافز الفردي. كلاهما يفتح الباب للاستثمار الأجنبي الخاص ولكن مع إخضاع المستثمر الأجنبي بشروط وقيود تمليها المصلحة الوطنية. كلتاهما تمارس الخصخصة ولكن دون افتئات على مشروعات عامة ناجحة، وبشروط تمنع تبديد الأموال العامة لصالح سياسيين مرتشين. اللافت للنظر أيضا أن كل هذا اقترن في كلتا التجربتين، الماليزية والتركية بدرجة عالية من الديمقراطية وإتاحة حرية التعبير واحترام تراث الأمة، فأثبتت كل منهما أن النجاح الاقتصادي لا يتطلب التضحية بشخصية الأمة، بل على العكس أن الانصياع للإرادة الخارجية يؤدى إلى التضحية بالدين والدنيا معا. يلاحظ أيضا أن كل من تجربة ماليزيا وتجربة تركيا، بهما بعض أوجه الشبه المهمة بالتجربة الناصرية في مصر، ولكنها تختلف عنها في أشياء مهمة أيضا. أعتقد أنه يجب اعتبار كل من التجارب الثلاث تجربة ناجحة في البدء ببناء نهضة حديثة في دولة من دول العالم الثالث، وقد ساهم في ذلك تمتع كل منها بدرجة عالية من حرية الإرادة ورفض الانصياع للضغوط الخارجية، وقيام دولة قوية بدور فعال في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وإتباع نظلام للتخطيط المركزي ودرجة عالية من سيادة القانون. اعتمدت كل من التجارب الثلاث على تعبئة الموارد الذاتية مع إفساح مجال أصغر لرءوس الأموال الأجنبية، واتخذت كل منها إجراءات مهمة للتقريب بين الطبقات. ولكن النظام الناصري كان ينتسب لعصر لعبت فيه المعونات الأجنبية دورا كبيرا، بينما تحققت التجربتان الماليزية والتركية في عصر سيادة الشركات الدولية العملاقة، فحلت الاستثمارات الأجنبية الخاصة محل المعونات الرسمية كان عصر عبد الناصر يتسامح مع الانغلاق الاقتصادي وإقامة الحواجز والسدود أمام السلع والخدمات الأجنبية، فحل محله عصر الانفتاح على العالم. وقد حاولت التجربتان الماليزية والتركية التعامل مع هذا العصر بنجاح لابد من أن نعترف أيضا بأن الدولة الناصرية كانت أقرب إلى الدولة البوليسية (على الأقل في سنواتها الأخيرة التالية لهزيمة 1967)، أكثر مما كانت الدولة في التجربة الماليزية أو التركية. ولكن المناخ العالمي كان يسمح بذلك في الستينيات (ربما بسبب ظروف الحرب الباردة) أكثر مما أصبح يسمح به الآن. لماذا نجحت الدولتان الآسيويتان في تدشين تجربتين باهرتين في النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا تنجح دولة كمصر ليست أقل منهما مكانة فى التاريخ أو الثقافة أو حجم السكان أو الموارد الطبيعية بها بل يحيط بها عالم عربي واسع يملك ثروات مهمة، ويتعاطف مع مصر، ومستعد لدعهما وتأييدها، وقبل أكثر من مرة أن يسلم عن طيب خاطر بزعامتها له؟ هناك بالطبع أسباب مهمة تدعو للتفاؤل بأن تقوم مصر من غفوتها وتشرع فى بناء نهضة جديدة كما حدث فى مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، وكما حدث فى النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد أثارت ثورة 25 يناير 2011 الآمال من جديد بإمكانية هذه النهضة بعد أكثر من أربعة عقود من شعور ثقيل بالإحباط. يقوى من هذا الشعور بالتفاؤل ما يبدو من تغيرات جديدة فى العالم، قد تسمح لدولة كمصر بأن تمارس من جديد درجة عالية من حرية التصرف ومقاومة الضغوط الخارجية، مثلما حدث لعبد الناصر ومحمد على من قبل. الولاياتالمتحدة التي تتزعم العالم آخذة فى الأفول. لازالت هي أقوى دول العالم عسكريا وأكبرها اقتصاديا، ولكن مركزها النسبى فى الاقتصاد العالمي آخذ فى التدهور، منذ عدة عقود، ولا يبدو هناك مفر من استمرار هذا التدهور ، وتدهور المركز الاقتصادي لابد أن يسفر فى المدى الطويل عن تدهور المركز السياسي والعسكري. بل وحتى قبل أن يحدث هذا لابد أن يؤدى تدهور المركز الاقتصادي لدولة ما إلى تدهور قوتها فى الساحة وفى تسيير العالم على هواها. والعالم يشهد بزوغ قوى جديدة لا يمكن الاستهانة بها، وتتقدم بسرعة مذهلة، وتنتمي لحضارات وثقافات غير غربية، وكانت حتى وقت قريب من دول العالم الثالث، فلا يمكن أن تتوقع أن تتنكر لبقية العالم الثالث بمجرد اقترابها من مركز الصدارة. إني أعنى بالطبع الصين والهند، ولكن لماذا لا نضيف أيضا ماليزيا وتركيا وإيران (متى خفت الضغوط الخارجية على هذه الدولة الأخيرة)؟ وكذلك البرازيل ودول أصغر منها فى أمريكا اللاتينية، وإن كانت أقرب فى ثقافتها إلى ثقافة الغرب، من الدول الآسيوية؟ لماذا لا يبعث هذا أيضا مزيدا من التفاؤل فى نفوس المصريين وبقية العرب، بإمكانية الشروع فى بناء نهضة جديدة؟ بل إن من مصادر التفاؤل أيضا ما كشفت عنه ثورة 25 يناير من تغيرات رائعة فى الجيل الجديد من الطبقة الوسطى المصرية، وكأنه هو الجيل الثاني من الانفتاحيين ، أفادوا من الانفتاح على العالم ولكنهم أكثر ثقة بأنفسهم من الجيل السابق، وأكثر تمسكا بتراثهم، والنساء من بينهم أكثر تحررا، عقليا ونفسيا، وأكثر ثقة بالنفس دون التنكر لتقاليد أمتهم. ولكنى أعود فتساورني بعض الشكوك والقلق. إن العالم العربي مصاب فى موضعين ليس لهما مقابل فى أي منطقة أخرى من العالم الثالث أو المتقدم، وليس من السهل علاجها: إسرائيل من ناحية، وثروة البترول من ناحية أخرى. وكلا المصابين (وأكاد أقول المصيبتين لولا صعوبة وصف الثراء بالبترول بهذا الوصف) يؤديان إلى تأخير تحرر الفريسة من قناصيها، حتى مع ما نلاحظه من ازدياد ضعف القناصين. فهل تكفى الإرادة الوطنية المصرية والعربية لتحقيق هذا التحرر؟ وهل السلطات الجديدة التي تسلمت أو سوف تتسلم مقاليد الأمور فى مصر وفى غيرها من البلاد العربية التي تموج الآن بالثورات، لها نفس هذا التصور لمتطلبات النهضة وشروط تحقيقها، بل وحتى بغرض حصول مصر ودول عربية أخرى على درجة عالية من الديمقراطية واسترداد المصريين (وبعض أشقائهم العرب) حقوقهم المسلوبة فى الترشح والانتخاب وحرية التعبير، التي حرموا منها عقودا طويلة، هل تكفى حقا هذه الديمقراطية المنقولة حرفيا من كتب غربية، لاسترداد حريتنا الحقيقية التي يمكن أن نبنى بها النهضة المنشودة؟ .