هي حمرة شفق وستارة ليل وبعض الوجيب وكثير من القلق وبركان غضب وشلالات دماء تفصل عباءة ليلنا عن دثار النهار .. وبين أول حافر وآخر صهلة يولد أول شعاع مستقيم من فجر الحرية. هي ساعة صبر وحمام عرق مضمخ بدماء طيور جريحة أو ذبيحة على نصب الحرية وبعدها تشهد دارنا الموحشة كالقبر، الباردة كنصب شهيد، أول صرخة لوليد النهار. تحتاج رخصة الحرية من غزالة الأيك إلى كثير مران حول ميدان مزروع بوحوش جائعة إلى أي لحم مهما كانت مرارته، وإلى أي دم مهما كانت صبغته، وإلى أي متريض ساه مهما كانت درجة قرابته. فوحوش الأيك نبتة شريرة انغرست في حلق البلاد ذات إغفاءة من حراس النهار. ليس السباق شريفا إذن بين ساق وساق، وليست الجائزة حزمة من انتشاء تلوكه الأفواه الجافة من طول صيام. فالجائزة بلاد بطول النهر وعرض التاريخ، وكرسي الملك مطعم بالأساطير وأوراق البردي. هو سجال إذن بين كر واختباء .. حرب هي بين باطل وضياء، وبين أقوام باعوا أرواحهم فداء لدين ووطن، وأناس باعوا أنفسهم لغواية شيطان يريد أن يبتلع النهر من البحر إلى الهضبة وينزع شجرة التاريخ بكامل تفاصيلها من خارطة الحياة. صراع هو إذن بعمق التاريخ، علمنا بدايته ونجهل جميعا منتهاه. حكاية قديمة سطرها أول دم وأول غراب وأول كوة يخبئ التاريخ فيها أخطاءه ويهيل عليها أكوام النسيان. لسنا في صراع إذن مع جار يريد أن يقتلع أظافرنا من أطرافنا ويجتث مروءتنا من أرواحنا ويخلع ذواتنا ويلقيها في أتون حقدة وشنآنه، ولسنا في حصار، فرضه إخوة الدم والتاريخ، يضيق كلما اتسعت مساحة مطالبنا، ولسنا نقاتل طواحين الهواء من كل الأماكن التي يمكن أن يشير إليها مؤشر بوصلتنا. نحن في مرجل جدلية تاريخية بين خير وشر، نكاد نذوب خوفا ورعبا وانهيارا، وتكاد أبصارنا تزيغ وتبلغ أرواحنا الحلقوم ونظن بالله كل الظنون، لكن صوت الطفل الرابض فوق صدر أمه وهو على شفير موت وفي مرمى سعير يهدهد مخاوفنا ويربت فوق ظهورنا المتعبة: "اثبتوا فإنكم على الحق". على الحق نحن إذن وإن تورطنا في بعض مخاوف أو اقترفت أيادينا حماقة غزل خيوط جدال. على الحق إذن وإن اختلفنا وتبادلنا السباب واللكمات. على الحق نحن وإن كنا الأضعف عددا والأقل عدة، وهابيلنا جدير بكل شهادة على أيدي زبانية السلطان. لكننا أبدا لن نلوث ثوب تاريخنا المغزول بضوء القمر بروث خنازير التاريخ ودمائهم. لن نرفع أيادينا بعصا وإن رفع الأخ يده بمدية أو عظمة من قبور الآباء. همجيون هم وقادرون على سمل العيون وخنق الورود التي لم تشبع بعد من ضياء القمر. لكننا سننتصر.. سننتصر كما انتصر شعاع الفجر على أكوام السواد التي ظل الليل ينسجها ساعات سهره. قادرون نحن على هزيمة ليلهم ببياض أكفنا ووضاءة جباهنا التي ينز منها ماء توضأنا ببعضه وروينا أشجار نخيلنا ببعضه وسقينا حلمنا ومستقبلنا ببعضه. لن يتمكنوا من اجتثاث زروعنا المفروشة على وجه اليابسة وإن افتعلوا حريقا هنا أو دمارا هناك. ستنبت دماء شهدائنا تاريخا جديدا وسط كهوفهم الآيلة للخراب. مستبشرون نحن بنصر لم نعد عدته في حرب أتتنا على غرة من تاريخ لا يعرف أجراس الإنذار. مستبشرون رغم شراسة المعركة مع قوى الظلام التي تنبت كل ليل في أحشاء الظلام لتهلك الحرث والنسل. مستبشرون بميراث أرض يتملكها القرف من أنهار الدماء المسفوحة في كل واد وعلى كل ناصية. إن كانوا يستندون إلى نار فقد جعلها الله ذات لهيب بردا وسلاما، وإن كانوا يحصروننا بين سندان أسلحتهم البيضاء وماء المحيط، فقد شق الله ذات يأس في البحر يبسا. بيدنا إذن أن ندفع عجلة الحق قدما بعد أن تراجعت أمام سواعد الاستبداد ثلاثة عقود ونيف. وعلينا أن نثق بوعد ربنا وكتب التاريخ، وأن نمهد قلوبنا وأرضنا لعهد جديد تنتصر فيه جذور الخير على ديدان الشر، لتنتهي ملحمة التاريخ الجدلية بنهاية، وإن متأخرة، سعيدة؛ فيثأر هابيل لدمه المهراق فوق صفحات الماضي البعيد من صمته المسجون في حفرة ضيقة رسمها ذات يوم غراب.