لا أعتقد أن أحدا من المثقفين من أبناء جلدتي يجهل دور سقراط كواحد من ألمع المفكرين والفلاسفة على مر العصور، لكنني أكاد أجزم أن القليلين منهم يعلمون أن سقراط لم يكتب شيئا مما ورد عنه وبلغنا من فكر وفلسفة، وأن الفضل في إطلاعنا على هذا الكم الزاخر من الحكمة يرجع لأفلاطون تلميذ سقراط النجيب. بالطبع لم يكن سقراط يجهل القراءة والكتابة، لكنه كان يكرس وقته لما هو أنفع من تنوير وصياغة للعقل البشري وفق أحكام المنطق وآدابه. فقد كان الرجل يرى المعرفة غاية في ذاتها وأنها تحلق بصاحبها في سماوات الواقع كما يحلق المخدر بصاحبه في نيرفانا الوهم. وكان يرى أن المعرفة فضيلة، وأن ادعاء المعرفة خطر على صاحبه وعلى كل المحيطين به. لكن فلسفة الرجل الكلامية ومدرسته الفكرية غير النظامية أثارت حفيظة الناس جميعا لا سيما المفكرين منهم والساسة بعدما رأوا أتباع الرجل يزدادون عددا وفكرا وتلامذته يزدادون ولاء وانتماء. كان "ذبابة الخيل" كما كان يحلو لأفلاطون أن يلقبه يستمتع بإثارة الأسئلة التي تحرك الذهن ولا تضع ولائم الإجابات الجاهزة على أي طاولة. وكان سقراط يكره استخدام القوة المفرطة في مواجهة الفكر، وحارب فكرة الأثينيين عن العدل بلا هوادة. فقد كان الأثينيون يقدمون القوة على العدل، ويجعلون القوة حاكما والعدل تابعا، خاصة بعد أن هزيمتهم الساحقة من الإسبرطيين الذين دحروهم خلف سجون المراجعات والمحاكمات الفكرية اللعينة. وبلغ حقد الحاقدين ذروته حين اتهمه بعضهم بالهرطقة، وقادوه مكبلا إلى محاكمة غير منصفة وأدانوه، وكان قرار الإدانة جاهزا قبل عقد المحاكمات نزولا على مبدأ "القوة تصنع الحق" الذي طالما فنده أفلاطون. ورفض أعظم الناقدين للديمقراطية غير الأخلاقية أن يهرب من زنزانته بعد أن فتح أنصاره باب الرشوة على مصراعيه حتى لا يخالف فعله مبادئه، كما رفض الاعتذار عن فكره قائلا: "لماذا لا تطلبون من المحاربين الذين يواجهون الموت في ساحات الوغى أن ينكصوا على أعقابهم؟". ومات سقراط وعاش فكره ليحاكم عقولنا الصغيرة وفلسفاتنا الأنانية في الدفاع عن الشهوات والمطامع حتى آخر رمق. رحل أفلاطون بعد أن شرب سموم عداوات الجاهلين وسما زعافا سرى في جسده كالخدر حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ليعلمنا أن موت الشريف خير له من حياة الذلة والعار. رحل سقراط رافضا أن يدنس ثياب الفكر أو ينكس راية مبدأ عاش لأجله ومات لأجله. ذهب وترك لنا إرثا من الفهم والفكر والوعي والمنطق والسلوك يستحق أن نميط اللثام عنه ليعلم المشتغلون بالثقافة والفكر في بلادنا أي بون شاسع يفصل بين فهمه وأفهامهم وحكمه وأحكامهم وحياته وحياتهم وموت يفرون منه فرار الحمر المستنفرة يوم يكر عليها قسورة وميتة فتح له شرايينه وأوردته دون أن ترتعد فرائصه أو تصطك أسنانه. لم أكتب عن سقراط اليوم لأخلد ذكره أو لأوقظ فكره من رقدة أبدية لم تعرف بلادنا لها قيامة، ولا لأنعي شهيد رأي في زمن يتخلى قومه عن مبادئهم كما يتخلون عن سقط متاعهم. أكتب اليوم وفي الحلق غصة وفي القلب حسرة وأنا أرى أبواب نخاسة المبادئ في بلادي مشرعة، وحوانيت الفكر المغشوش والأقلام المعروضة للبيع على كل الأرصفة وفي كل الميادين تعرض أجسادها العارية أمام المعربدين الأثرياء من كل فج. يعتصرني اليوم ألم فكري مبرح وأنا أرى أبناء بلادي يسيرون خلف كل ناعق دون تحكيم رأي أو إعمال فكر. كنت أظن حتى عهد قريب أن صمت المفكرين عما يجري من افتئات على الحق وتجاوز لكافة حدود المعقول حلما، لكنني أدرك اليوم أن الوفاض جد خاو وأن المنطق في بلادي يسير في اتجاه عقاربأثينا يوم خذلها مثقفوها فقهروا العدل بسلطان القوة دون أن يجدوا سقراطا واحدا يسير بين الناس في حواري بلادنا الغائبة عن المنطق والمغيبة عن الحقيقة بفعل فاعل كي يعلمهم أمور وعيهم ويضع لجام الفكر السليم في أياديهم. يقول أفلاطون: "لست أثينيا ولا إغريقيا ولكنني واحد من أبناء هذا العالم".