في أخريات عمره قرر العجوز فجأة أن يفتح أبوابه ونوافذه على ضوء الشمس ونور القمر. هكذا فجأة تحولت المكبوتات التي تكدست في أعماقه إلى انتفاضة متأخرة ضد الظلام وضوء المصابيح المرتعشة وراء الأبواب المغلقة والستائر المسدلة والأحلام التي لا تتجاوز عتبة بابه. قرر الرجل فجأة دون تردد أن يزيل جبلي الهموم اللذين يقبعان منذ أول شعاع فجر في حياته الممتدة على صدر شرفاته فيحجبان الضوء والهواء والريح والمطر والحياة. جمع الرجل أولاده عند ناصية أحد الوتدين وشاورهما، وتجمعت حبات آرائهم في بوتقة التعاون على البر والحرية والنور. كان الأبناء يكرهون الليل الرابض فوق أهدابهم والظلام المقيم في غرفهم ليل نهار، وكانوا ينتظرون إشارة البدء في سباق نحو الفجر، وما إن أمّلهم العجوز بإمكانية الخروج من بوتقة العجز وصناديق اليأس حتى هرعوا إلى مطارقهم ليفتحوا طريقا للنور يسقي عطش الليالي كالحة الحزن. وحين رآهم جار لهم يجيد مصمصة الشفاه وزراعة الحسك في رياض الجنان، ثبط من عزيمتهم وسخر من سواعدهم المفتولة بالوهم والغرور، وهوّل من مهمة دحر الأخشبين وصناعة الأشعة في واقع يكتنفه الظلام من كل حدب، وخوّفهم ذئاب الجبل ومردة الجن وانقضاء الأجل حتى أوشكت ملامحهم الصارمة تتلوى تحت طعان كلماته، ودب في قلوبهم الحنين إلى الغرف المظلمة والأبواب التي تستر عريهم وتكتم عجزهم. أوشك الفتية أن يديروا مفاصلهم في اتجاه الريح ويعودوا سيرتهم الأولى ليتمتعوا بضوء القنديل ورائحة الغرف التي لم يزرها شعاع الفجر منذ ميلاد العبودية في عيونهم الصغيرة. قرر الفتية أن يعودوا لممارسة شعائر الخوف والتردد في معابد صدورهم الضيقة، لكنهم وجدوا والدهم في أثرهم ينظر بعينين هازئتين إلى سواعد نسيت عضلاتها عند أول مفترق رؤى، وقررت التخلي عن أجنحتها مقابل حفنة من الحَب وقفص من الخشب. تقدم الرجل نحو جاره بقدمين باعتا الخوف ورهنتا كل عقارات الرهبة عند بائعي الظلام، ونظر بعينين ثابتتين إلى وجهه الحجري، وقال: "لقد سمعت منك هذا الكلام حين كنت في مثل عمرهم، واستطعتَ بسحر عباراتك أن تنفذ إلى عزيمتي الخائرة، فعدت أدراجي وسلمت مطرقتي للشيطان، وانزويت في كهف حياتي المعتم أعبد تماثيل أحلامي وأؤمل نفسي بزلزال يشق عباءة الليل إلى نصفين ويخرج طفل النهار من رحم اليأس ليلقيه بحجري، وسهرت الليالي أرفع عيني إلى السماء وأخفضها دون أن ينبلج صبح في عتمة ليلي أو يسقط من جبال أحزاني حجر واحد. أدركت اليوم أن شراك الأمل التي كنت أصنعها ليلا لأقع فيها نهارا صارت أكفانا من أحزان يرتديها أبنائي كل مساء لكنني لن أهدر ما تبقي في سواعدي من نبضات في انتظار فارس ليل يهبط عند بيتنا ساعة سَحَر ليحرر جبال الحزن من مرابضها ويفتح نوافذي على باقات النهار. مللت الانتظار والعبث بخصلات عمري حتى نفد ما لديّ من رصيد حياة، والآن أراك تكرر سيناريو التعطيل على مسامع أبنائي كي تعيد مهر الحرية إلى مربض الانتظار. سنذهب يا صديقي لنبحث عن الفجر في غابات التيه، وفوق كثبان اليأس سنبني تمثالا لأول شعاع يصدر من بوصلة الحرية. قد ينثني معولي أو تنكسر مطرقتي أو أقع من شاهقٍ لتتحطم عظام نخرها سوس الانتظار، لكن عذابات الدنيا كلها لا تسوي ساعة من عناق لحلم طاردته أشباح مخاوفنا في كل غابات الحزن. أعلم أنني لن أنال نصيبي من نور الفجر، ولكن يكفي أن أحفر نفقا في شدق الليل ليخرج منه شعاع أمل الأمل لأحفادي في مستقبل مختلف. ومضى الرجل نحو جبلي الظلمات وتبعه أبناؤه، وظل الجار واقفا فوق عتبة التاريخ ينتظر من يصغي لفخاخه. لقد انطلق سهم الحرية من أعماق حناجرنا ولن يرتد إلى غمده إلا إذا بدلنا مواقفنا وبوصلات أحلامنا واشترينا وسادات عجز وأنخنا عليها ركاب الحج إلى واحات الحرية. لن تعود الخيل الظامئة إلى براري النهار مرابض العبودية وإن كلفها الحلم برودة الشتاء وهجير الصيف ورصاصات طائشة تئز كعادتها حول رأس الحرية الصلب. فليستعد أولئك الذين لا يحترفون إلا صناعة القيود لتغيير حرفتهم أو تحمل تبعات نشاطهم غير المشروع في سراديب المستقبل. ليتهم يدركون أن شعاع الشمس لا يتوقف عن التقدم نحو صدور الليل وإن تحالفت عليه كل السحابات السود وخفافيش الظلام وأكلة الجيف. لن تمنعنا جبال الألب ولا دياجير الخوف من تلمس غد أفضل لأبنائنا قد لا نرى شعاعه وإنمسنا اليوم بعض من دفئه. سنواصل الطرق فوق الأبواب المظلمة والحوانيت التي نام عنها الفجر حتى تتحرك سحب الظلام من تحت عتبات أبوابنا المشرئبة نحو مستقبل آخر لأننا مع كل طرقة نزداد قوة، ومع إسقاط كل حجر نفتح شرايين المستقبل لدماء أكثر نقاء وأكثر طهرا. سنتقدم لأننا ببساطة نسينا كل طرق العودة إلى الوراء ورمينا كل مفاتيح ضعفنا في بئر أخطاء ندعو الله مع كل طرقة من معول أن يغفرها لنا. يقول أرسطو: "الحر ية الحقة أن تنتصر على مخاوفك،".