مهزلة هي انتخابات الرئاسة في بلادنا وكأنها كوميديا سوداء تتاجر بالموتى وتسخر من الألم، ولو أن أندريه بريتون كان بيننا لما نسب هذا النوع من الكوميديا إلى جوناثان سويفت، فنحن أولى بريادة هذا الفن الأسود حقيقة لا قولا، ومعايشة فعلية لا محاكاة تمثيلية. ففي بلادنا أم العجائب، انقلب الظلم على المظلوم والسحر على المسحور، وتحول المواطن المكتوي بنار الألم ومرارة الحرمان إلى بوتقة فخارية تستحق آلاف البصقات من إخوان الهزيمة ورفقاء الأزمة. وها هي الجماجم والدماء وكافة المحرمات تتحول إلى منمنمات فلكلورية تستدعي السخرية وهي تجمع في ألوانها المتداخلة بين المقدس والماجن يتعانقان في رقصة حميمية حول أشلاء من بقايا آدمية أمام خلفية مفروشة بالأحمر القرمزي. وها هم القتلة ومصاصو الدماء يسخرون من النظارة الذين اكتفوا من الحياة بالمشاهدة عن بعد والتصويت عن بعد والتنهيدات والزفرات الحارة عن بعد. وفوق الجماجم يتقدم المغامرون والطامحون وأولياء الدم والقتلة لقطف عناقيد العنب التي نبتت ذات ربيع كاذب في خاصرة الوطن. وها هو الليل الذي كنا نسيناه في غمرة انفعالاتنا الصبيانية يتقدم من مؤخرة المشهد ويقف فوق كافة الرؤوس في انتظار الزحف المقدس نحو المستقبل الميمون. وها هم رعاة الذبح يتوسطون المنصة ويغطون بأجنحتهم المفروشة على مصراعيها ستائر الخلفية ليتم تعتيم المشهد، ثم تراهم يتحركون في خطوات متسارعة إلى الجانبين لنرى صندوقا زجاجيا يتسيد خشبة المسرح ويبدأ الناس جميعا في الوقوف صامتين يتمتمون بلغة غير مفهومة وكأنهم يقرؤون الفاتحة على فقيد لا يسأل أحد أحدا من يكون. ثم يطوف الحشد بأكمله حول الصندوق في صمت خاشع، ويحاول بعض القادمين من الصفوف الخلفية التبرك به، فيمسح بيديه زجاجه الأمامي المعتم ثم يمسح وجهه وينفث في كفيه ويتمتم ببعض العبارات غير المفهومة ويقلده الآخرون. وفجأة يكتشف أولياء الدم أن الدماء ليست مقدسة جدا وأن المساومة على بيعها خير من إهراقها على عتبات المحاكم غير المقدسة وانتظار قاض لن يأتي وشهود لا يرون إلا بقدر ما تسمح لهم نظارات الجلاد، ويكتشف فجأة أيضا أن الصندوق ليس تابوتا يحمل المقدس، وإنما يحمل تذاكر سفر إلى المجهول. وفجأة يختفي كل شيء مع سقوط الظلام من أعلى إلى أسفل، وحين تضاء الأنوار نجد الألوان قد تبدلت، ونجد المشهد بأسره قد تحول وكأننا لم نعد في مدينة يكتنفها الحزن من كل جانب. لسنا في موسم حج أيها القادمون على رواحلكم من كل فج عميق لتقطعوا تذاكر سفر غير ميمون إلى مقعد مليء بالحسك والشوك، ولسنا نسير نحو أي مستقبل تتراكضون نحوه، لأن الصورة المقلوبة أفقدتكم الرشد ذات شهوة فانقلبتم على رؤوسكم تطمعون في حشو وساداتكم الخالية بأرياش طيور ذهبية حلقت إلى بارئها ذات رجولة. ولسنا في فسحة من الرفاهية تسمح لنا بالإنصات إلى مشاريعكم الطوباوية لأننا ندرك أن التاريخ حين يسير في مدن الملح نحو صدر البيت لا عجزه أننا مقبلون على شفق آخر يتسيده المهرجون ولابسوا الأقنعة ممن اختبؤوا في شقوق التاريخ حتى حين. ألم أقل أننا نجيد فن الكوميديا السوداء، ونجيد السخرية من أنفسنا حتى الثمالة ونتلذذ بقتل الشهداء آلاف المرات ونصلبهم على مداخل الشوارع وبوابات المدن وحانات البغاء دون أدنى حياء ؟. أي سوداوية أكثر من مشهد يبحث فيه القاتل عن جثة القتيل ليبول عليها فوق قارعة الطريق ساعة زحام بمباركة أهل المدينة الفاضلة ؟. وأي رجال نحن ونحن نرى بأعيننا التي تخلت عن حيائها تجار الدماء يتقدمون نحو منصات التتويج دون أن تهتز في جلودنا المغلقة على لحومنا المكتنزة من طول جلوس شعرة من خزي ؟. قول باسكال: "الخجل الأدهى أن لا تشعر بالخجل".