أراد مينو أن يختبر فلسفة أفلاطون بسؤال سفسطائي عن عبثية البحث عن أشياء لا يعرف المرء ماهيتها. فقال له: "إذا كنت لا تعرف طبيعة ما تبحث عنه، فكيف تتعرف عليه إن وجدته؟ وإذا كنت تعرف طبيعته، فما جدوى البحث عن شيء تعرفه؟" وهو سؤال جدير بالحيرة وعصي على إجابة متعجلة من عقل لاه. لكن أفلاطون الذي كان يملك وعيه في كافة طرقات أثينا قال في ثقة: "نحن نعلم في أعماقنا كل ما نريد أن نتعلمه، كل ما علينا أن نحاول استدعاء تلك المعرفة المخزونة في دهاليز ذاكرتنا". وحين ثار حوار مشابه بين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، تباهي علي بقدرته على الخروج من كافة الأزمات التي مر بها، ورد معاوية بأنه استطاع بدهائه أن لا يورط نفسه في أزمة. صحيح أن هذا الكلام يحتاج إلى تمحيص لا سيما وأنهما وقعا في ورطة تاريخية لم يستطع جهابذة المنطق إخراج سيفيهما منها، إلا أن توارد خواطر كهذه على رؤوس بهذا الحجم يضعنا أمام مسئولية تاريخية كبرى. وهي أننا نعلم في دواخلنا سبيل الانعتاق من محنة الخلاف التي تشهر سلاحها في وجه الوطن منذ اكتشف المصريون حناجرهم ذات غضب. المشكلة في جهودنا العبثية من أجل الوصول إلى الحقيقة هي رغبة في توفيق الحقائق مع المصالح الضيقة والتي لا تجعلنا مهيئين لاستعادة المعلومة المناسبة في الوقت المناسب وبالكيفية المناسبة. وحين رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مستقيما لمن أراد النجاة، كان يعلم يقينا أن نفوسنا الضعيفة لا تميل إلى الخطوط المستقيمة وتستهويها الانحناءات والتعرجات والدوائر. فحذرنا صلى الله عليه وسلم من الدنيا، وقال إنها خضرة حلوة تستهوي الأنفس الضعيفة والقلوب الواهنة التي تحبها وتأنس بها، وتكره الموت وتنفر منه، وحذرنا من الخطوط القصيرة التي لا تقود إلى هدف ولا تؤدي إلى جهة. لكننا في خضم الأزمة نرفض التصالح مع الذات، ونصر على طمس الذاكرة بخلطة من الأنانية والطمع، لأننا لا نرى أن الوطن أهم من كل الألقاب ومن كافة الصناديق. مرة أخرى نؤكد أن الطريق المستقيم إلى النجاة معلوم بالفطرة السليمة التي لم تلوثها أطماع الحياة، وكل ما نحتاج إليه ساعة من ليل أو نهار نجلس فيها إلى أنفسنا بلا شهوات ولا كراسي، وننصت إلى ذواتنا التي تختزن في دواخلها كافة أطواق النجاة لنختار طريقا للبلاد في البحر يبسا لننجو من قسوة التاريخ وظلمة القبور. علينا أن نفصل سواد رغباتنا عن نصاعة أهدافنا لنرى طريق الحق مرسوما على كل فج في خريطة البلاد. هذا إن كنا بالفعل صادقين في البحث عن مخرج من قلعة التاريخ التي توشك أن تطيح بكافة الرؤوس العنيدة. يقول آين راند: "السبب فيما نعانيه من مشكلات هو أننا نصر على العمل بنفس الطريقة الآلية دون أن نكلف أنفسنا عناء النظر إلى ما تنسجه آلاتنا لنتعرف على العيوب التي تتخلل النسيج ونحاول إصلاحها".