لم تعد شوارعنا المغلوبة على رعبها تعرف صيحة اسماعيل ياسين في زمن السينما الجميل "امسك حرامي"، لأن حرامي الأمس لم يكن مدججا بترسانة أسلحة بيضاء وسوداء يتجاوز مداها قدرة أجسامنا المكتنزة بالشحوم على التحمل أو الركض. ولأننا ندرك يقينا أن صرخة الاستغاثة في مجتمع اليوم كالآذان في مالطا قديما لا يحرك عند فاقدي الشهامة ساكنا. ما هذا التغير الحادث في أدبيات اللصوصية في مجتمعنا وما الذي أدى إليه يا ترى ؟. كانت عدة الحرامي في الزمن الجميل مجرد إصبعين يلتقيان حينا ويركب أحدهما الآخر مع انحناء قليل في مفاصل السلامى حينما حسب تموضع المال في جيب صاحبه. ولم يكن يحمل الحرامي في جيبه أي أداة حادة سوى مشرط صغير لإجراء الجراحات العاجلة للجيوب المؤمنة بزر أو يد حريص. وكان اللصوص يتناثرون في الموالد والقطارات ويتوخون أوائل الشهور وأيام الأعياد حين تمتلئ الجيوب بالبنكنوت والفضة. لكن من يقع منهم كان يدفع ثمن تهوره صفعا وركلا من كافة الأيدي الغليظة والأحذية الرخيصة. وكان لأغلب الحرامية قدر من الشرف ينهاهم عن سرقة الفقراء أمثالهم أو السرقة من أجل الذهاب إلى المتنزهات أو قضاء مدة البطالة خارج البلاد. وكان منهم لصوص طيبون يشاطرون الفقراء سرقاتهم، فيحشرون في نوافذ بيوتهم التي قصدوها لأجل السرقة ولم يجدوا فيها شيئا كيسا مليئا بالجنيهات أو محشوا بقطعة لحم تمكنوا من شرائها من حر أموالهم مسروقاتهم. وكانوا لصوصا ظرفاء، ينجحون بالحيلة أو النكتة في إظهار مواهبهم الفذة، فكانوا يشترون الحمير من أصحابها ويبيعونها لهم في اليوم التالي بعض صبغها، فلا تفضحهم إلا زخات المطر تزيل قشرة اللون من مسام الجلود، ويبيعون الهواء أوالشمس أوبودرة العفريت أوالزئبق الأحمر الذي يطوع الجن في زجاجات. وكان البسطاء الذين يقعون في حبائلهم يضحكون ملء أفواههم المسكونة بالطواحين السوداء حتى ينقلبون على أقفيتهم بعد أن يدركوا أنهم وقعوا في كمين لصوص ظرفاء. أما حرامي اليوم، فلم يعد في حاجة إلى أصابعه ولم يعد يلجأ إلى الاختباء عند النواصي في الليالي التي يغيب عنها القمر. فقد حصَّنته حصانتُه البرلمانية في نقابة اللصوص من التعرض أو الاعتداء، ووقته أسلحته البيضاء وعصابته المدججة بكافة أسلحة الشرطة المسروقة والمهربة عبر الحدود من التعرض لمن يشاء حيثما يشاء وأخذ ما يشاء وقتما يشاء. صارت كل الدروب له وكل التقاطعات، وكل الميادين والشوارع والحارات، وصارت له مهابة لم يعرفها خفير درك ولا لواء شرطة ذات جاهلية. لم يعد لص اليوم يلجأ للحيلة ولم يعد يسرق ليأكل، بل صار يتعمد إرهاب المأسوف على أمنهم في أرواحهم حتى وإن لم يرفعوا صوتا أو يحركوا يدا. وصار للص اليوم حسابا بنكيا وعقارات وشاليهات وأراض يرمح فيها خيل "باليو" كانت ذات يوم ملكا لشعب خرج من مولد "أبو حصيرة" بلا تاريخ ولا جغرافيا. ولصوص اليوم ليسوا ظرفاء البتة، ولا يعرفون الفرق بين صرخة طفل فقد أمه على قارعة طريق وصراخ آخر ساعة ميلاد، فتساوت الأسلاب المعجونة بالدماء مع الأسلاب الممزوجة بالدموع والعرق في عيونهم. ولم يعد لص اليوم طيبا كأبيه أو جده لأنه يعلم أن قانون اليوم أكثر ميوعة وأن رجال الشرطة ليسوا كرجال الدرك. لكن ينبغي أن نؤكد هنا أن لصوص اليوم جديرون برجال اليوم الذين تخلوا عن طيبتهم وجحدوا دموعهم فلم تعد تتكور في محاجرهم الصلدة لرؤية مسكين ولا يتقدمون بعطية لطفل ينام إلى جوار أكداس القمامة، أو بكسرة خبز لعجوز يقاسم كلاب الحي لقمتهم. كان الرجل في القديم يركض خلف اللص لا ليقبض عليه ويسلمه إلى غياهب السجون، بل ليُعلِمه أنه قد أهداه ما سرق خشية أن يتمادى اللص في غيه،فيقع في حبائل الشيطان، ويكون طعاما في الآخرة للنيران. ينبغي الحزم - نعم - مع كل من روع نفسا مطمئنة أو قطع طريقا آمنا، ولكن علاج الشفقة يبقى أنجع من كل سواطير الجزارين.