يبدأ الفيلم بمشهد للكرة الأرضية من الأعلي كأنك تعيش إحدي حالات طفو الروح فوق الجسد لتشاهد التفاصيل المنمنة بشكل أوضح .. زرقة المياه .. النور المشع من الأنهار .. الظلام الدامس في الفضاء ، وفي أحد المشاهد سوف تري مصر منيرة على شكل زهرة لوتس تخطفك. هذا فيلم يأخذك في رحلة متعددة المستويات ولك أن تقرأه كما تريد؛ من أي مستوي يصل إليك .. فهو غني وبسيط. قد تشاهده كفيلم خيال علمي، وقد تحبطك بساطة الحبكة على الرغم من الإنتاج الضخم، ولكنني لم أشاهد هذا الفيلم من منظور الخيال العلمي. لم أصدق أن الفيلم عن الفضاء الخارجي، بل ما قرأته من خلال المشاهد الهادئة التي تجعلك تقف علي أطراف قدميك وأنت تشاهده .. إنها رحلة إلي عوالمنا الداخلية.. بحث في "الجوانيات". نمشي في هذه الحياة لندرك في كل خطوة وكل موقف بعداً جديداً في حياتنا لم نكن نعي وجوده من الأصل، هذا إن قررنا إتخاذ الطريق الصعب: طريق البحث والإشتغال علي النفس. الوعي لوجود الأنثي والذكر (طبقاً لنظريات كارل جوستاف يونج العالم النفسي الشهير) بداخل كل منا هو مفتاح الخلاص، أو علي الأقل بداية الكمال/ التوازن النفسي، الذي سوف ينعكس بدوره علي كل تفاصيل حيواتنا اليومية. وهو أيضاً رؤية صوفية للوصول إلي الإله .. وهو أحد الجوانب المهملة في حيواتنا علي الرغم من وجود الإثنين بداخل كل منا هرمونياً ونفسياً ننكرهم أو نُهمل وجودهم .. سوف تجد نفسك في لحظات تحتاج الأنثى داخلك التي تعلمك مفاهيم الإحتواء، الحب، التحمل وغيرها .. وتحتاج أيضاً إلي مفاهيم الذكورة النفسية التي تجعلك مهيئاً للحظات الصعبة في الحياة التي تحتاج فيها إلى مفاهيم القوة الجسدية، الإقدام وغيرها. في جرافيتي سوف أختار مشهداً بعينه؛ لنقرأه بهذه العين : مهندسة الإلكترونيات "رايان ستون" التي تتحدث بصوت واهن لكنها تمتلك ما تمثله الخصائص الأنثوية من العاطفة والتحمل؛ تهرب من حزنها لفقدان إبنتها إلى قوقعة عالمها الداخلي (الفضاء)؛ لتقابل رائد الفضاء مات كلواسكي الذي بدوره يحمل صفات الذكورة النفسية الإقدام والقوة الجسدية وفي الشخصيتين لن نعلم الكثير عن خلفياتهم أو حياتهم، فكل هذه التفاصيل الآن ليس بتلك الأهمية .. يكفي أن تشعر بالحزن الذي يثقل عالم رايان ستون وتصلك سخرية مات كلواسكي من العالم بأسره ليخفي مرارة لا نعلم سببها سوي خيانة زوجته له، لكنه حكاء: يحكي حكايات كثيرة طوال مشاهده وهي صفة أنثوية من الدرجة الأولي. البداية : عطل في المركبة الفضائية التي جاءوا علي متنها مع حوار طويل بين مات ورايان ومركز التحكم الارضي من أجل إصلاح العطب .. فجأة تحذرهم الأرض من خطر قادم إليهم، بقايا قمر فضائي قديم تم تفجيره فتتناثر أجزاؤه بدون نظام .. بالفعل هذه الأجزاء تودي بحياة كل الطاقم فيما عدا مات ورايان .. من هنا تبدأ رحلة الإستكشاف الجوانية للأبطال. في رأيي هي رحلة إستكشاف للعالم الداخلي لرايان التي تقوم بدورها "ساندرا بولك" .. يتعرضون سوياً لخطر الموت، يعلم مات كلواسكي الذي يقوم بدوره "جورج كلوني" أن أحداً منهم لن تُكتب له النجاة بدون الآخر؛ فيظل يبحث عنها عندما تطفو بعيداً عن المركبة وهي تعاني من نقص متسارع في نسبة الأكسجين الذي تحمله معها .. عندما يجدها وهي في حالة فزع، يربطها به بحبل طويل .. يتقدم هو المشوار في محاولتهما للوصول إلى محطة فضاء روسية مجهزة .. يعلم جيداً أنها مفتاح نجاتهما. في هذا المشهد نري بوضوح الإتحاد النفسي بينهم تحمل الأنثي والقوة الجسدية والإقدام للذكر، ثم عندما يصلون يتعرضون لحادثة أخري .. هنا يقرر مات التنازل عن جزئه الأنثوي فيقطع الحبل .. يطفو مات كلواسكي في الفضاء بدون قارب نجاة .. ذهبت الأنثى بعيداً عنه؛،لا ينجو .. ولكن صوته يظل في أذني رايان، يحثها علي النجاة عن طريق تبادل الأدوار فيما بينهم من يلعب الأنثى أحياناً ومن يلعب الذكر أحياناً أخري.
تصل رايان إلى الكبسولة في حالة إنهاك شديد من قلة الأكسجين. تدخل إلى غرفة القيادة (المايسترو)، تحاول أن تقرأ كتيب التعليمات. أن تبحث عن أمل للنجاة. تتصل بالأرض (عالمها الخارجي) لتحصل منه على دعم يُعينها .. لا يرد عليها الدعم الذي تريده من المركز الرئيسي في الأرض ، ولكن يصلها صوت بلغة غير مفهومة : نباح كلب، بكاء طفل .. لقد ردت عليها الأرض (عالمها الخارجي) بلغة أخري غير التي تفهمها .. رسالة لا تريدها .. ليس هذا ما تبحث عنه. .. لكن علي الرغم من ذلك تطلب من ذلك الصوت الإستمرار في الحديث. تقرر إفراغ الأكسجين الموجود لتنتحر بدل من إنتظارها للموت .. تنهمر دموعها ثم تبدأ في مرحلة الهذيان من قلة الهواء، عندها ترى مات كلواسكي (الذكورة) يحثها مرة أخري علي الإنتصار علي أحزانها .. تحتضن الأنثي الذكر في هذه اللحظة، تكتمل رايان كإنسان .. تجد وسيلة نجاتها، تعمل علي تشغيل هذه الكبسولة بطريقة ما مبتكرة لتحصل علي مرادها. ، أثناء ذلك نسمع صوتها يصبح قوياً، عالياً، متفائلاً.. إكتملت ريان كإنسانه تحمل الآن بداخلها قوى الذكر والانثي متحدتين .. تصل للأرض .. تقع في قاع محيط تغوص في مياهه ( في عقلها/ اللاوعي)، تسبح للأعلى بقوة .. تصل إلي الأرض .. تحبو مثل طفل يأخذ خطواته الأولى يتعلم المشي .. تصل إلى عالمها الخارجي بعد رحلة داخلية .. تبتسم