ماذا يحدث عندما يقف رؤساء العالم، وفي القارات الخمس في القفص؟! ماذا يجري عندما يخون هؤلاء الرؤساء بلادهم وشعوبهم ويحنثون بالقسم الذي أقسموه عند توليهم حماية الوطن الذي ينتمون إليه؟! وهل الجريمة- أو الجرائم- التي ارتكبها الرؤساء يحاسبون عليها شأنهم شأن بقية الناس، أم أن لهم وضعاً خاصاً؟! وإلي أين ذهب الرؤساء وما هو مصيرهم بعد أن حاكمتهم شعوبهم وأدخلتهم القفص؟! كم رئيس فعل مثل حسني مبارك الذي دخل القفص علي سرير متحرك؟! حول هذه الأسئلة وغيرها يسعي المستشار عبدالفتاح مراد رئيس محكمة الاستئناف العالي بالإسكندرية وأستاذ القانون الإداري، للإجابة عليها في مجلده الضخم (472 صفحة) من القطع الكبير »شرح جرائم الرؤساء ومحاكمتهم« ويقدم شرحاً تفصيلياً مقارناً لجرائم 35 رئيساً ومحاكمتهم في التاريخ الحديث عن الجرائم الجنائية والسياسية وجرائم الخيانة العظمي والاعتداء علي الدستور والامتناع عن تنفيذ الأحكام وجرائم الإرهاب والجرائم ضد الإنسانية.. إلخ.. إلخ. والمعروف أن كتب القانون تتسم بالجفاف، والمؤكد أنها غير جذابة للقارئ العام، وسرعان ما ينفر منها، إلا أن ما قدمه المستشار عبدالفتاح مراد يكاد يكون موسوعة تشمل محاكمات 35 رئيساً من قارات العالم الخمس، لذلك فإن تفكيك هذه اللغة القانونية الجافة- والصحراوية إن صحت العبارة- بما تضمه من قرارات اتهام ومحاكمات ومرافعات سواء للدفاع أو النيابة وأحكام تصدرها المحاكم، مهمة تستحق التصدي لها علي الرغم من صعوبتها البادية. من جانب آخر، تتضمن موسوعة المستشار مراد سبعة كتب في مجلد واحد، يضم الأول جرائم 12 رئيساً من افريقيا، وهم: مبارك- طبعاً- ورفاقه زين العابدين بن علي، ومعمر القذافي، ورئيس الكونغو موبوتو سيسيكو، ورئيس مالي موسي تراوري، ورئيس تشاد حسين حبري، ورئيس أوغندا عيدي أمين، وموريتانيا محمد خوناولد هيدالة، ورئيس ليبيريا تشارلز تايلو، والأثيوبي منجستومريام، وزيمبابوي روبرت موجابي، ويختتم الكتاب الأول بالادعاءات المنسوبة لعمر البشير رئيس السودان. وفي الكتاب الثاني ينتقل المستشار مراد إلي قارة آسيا، ويضم بدوره محاكمات عشرة رؤساء هم: رئيس إسرائيل موشيه كاتساف، ورئيس الوزراء شارون، والرئيس العراقي صدام حسين، وكذلك الرئيس عبدالكريم قاسم، وشاه إيران، والرئيس الفلبيني استرادا، والأندونيسي سوهارتو، والكوري تشون دهوان، والقرغيز ستاي أكاييف، والفلبيني فرديناند ندماركوس. أما الكتاب الثالث فيتضمن ستة رؤساء أوربيين: الروماني شاوشيسكو، والفرنسي شيراك، والإيطالي برلسكوني، والصربي كراديتشي، والإيطالي موسوليني، واليوناني بابا دوبولس. بينما خصص الكتاب الرابع لجرائم أربعة رؤساء من أمريكا الشمالية هم: كلينتون وبوش الابن ورئيس هاييتي دوفالييه ثم أريستيد وهو رئيس لهاييتي أيضاً، ويختتم هذه البانوراما العريضة بالكتاب الخامس الذي يضم جرائم ثلاثة رؤساء من أمريكا الجنوبية وهم بينوشيه رئيس تشيلي وفوجيموري رئيس بيرو وجونزاليس سانشير رئيس بوليفيا. ولأن المستشار رجل قانون اهتم بأن تتضمن موسوعته الكبري كتاباً سادساً يحتوي علي القانون 247 لسنة 1956 بشأن محاكمة رئيس الجمهورية والوزراء وقرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة بالقانون رقم 79 لسنة 1958 بشأن محاكمة الوزراء وقوانين إفساد الحياة السياسية والكسب غير المشروع. أما الكتابان الباقيان فأحدهما يتضمن شرحاً للمصطلحات الإنجليزية والفرنسية عن جرائم الرؤساء ومحاكماتهم، والثاني يضم صوراً شخصية للرؤساء المجرمين الذين قدموا للمحاكمة. هذه باختصار الخطوط العريضة للبانوراما التي قدمها المؤلف، وفي حدود علمي لا أظن أن هناك من أقدم علي مثل هذا التجميع والتوثيق القانوني لجرائم هؤلاء الرؤساء الذين عاشوا فساداً وإفساداً لبلادهم وشعوبهم خلال الفترة الممتدة من أواخر القرن الماضي وانتهاء بأوائل القرن الحادي والعشرين، وبالتحديد انتهاء بمحاكمة المخلوع في العام الماضي. وحسبما أشار المؤلف في مقدمته، فإن الدراسات الفلسفية التاريخية أثبتت أن الرؤساء مثل الأمم لم يستفدوا من دروس التاريخ ويعيدون ارتكاب نفس الأخطاء الذين سبقوهم في التاريخ، ويكفي فقط إلقاء نظرة سريعة علي ثورات الربيع العربي، سواء تلك التي انتهت بخلع الرؤساء ومحاكمتهم مثلما جري في تونس ومصر وليبيا، أو الثورات التي في طريقها لذلك مثل سوريا والسودان والبحرين، لنعرف إلي أي مدي لا يتعلم الرؤساء المجرمون من سابقيهم. وهاهو السفاح بشار الأسد مثلاً يواصل قتل المئات من شعبه منذ عدة شهور، سواء علي يد قواته النظامية أو البلطجية الذين يشكلون جيشاً موازياً ويطلق عليهم الشبيحة، بينما أمام الأسد وبجواره تهاوي وسقط حكم بن علي الذي هرب من تونس، وحكم مبارك الذي يقضي أيامه في سجن طرة، وحكم القذافي الذي قتله شعبه، ونفس الأمر جري مع القذافي الذي رأي بعينيه ما جري للرئيسين اللذين يجاورانه مباشرة وهما بن علي ومبارك، ولكنه أصر علي المضي في الطريق إلي نهايته فشتم شعبه ووصفه بالجرذان والحشرات، بينما كانت أمامه فرصة ذهبية للقيام بإصلاحات سريعة والتنازل أمام شعبه والاستجابة لمطالبه. وهو نفس ما يقال عن بشار الأسد الذي رفض كل الحلول وأصر علي الاستمرار في قمع شعبه بل وتصفية هذا الشعب منذ ما يقرب من سنة، كان خلالها- لو أراد- قادراً علي تهدئة الأمور، والطريق معروف: الاستجابة لمطالب الشعب بدلاً من أن يلقي المصير المعروف سلفاً: أما القبض عليه ومحاكمته مثلما جري مع مبارك، أو فراره إلي الخارج مثل بن علي، أو قتله مثل القذافي. في هذا السياق اقترح المؤلف مصطلحاً قانونياً جديداً يطلق علي مثل هذا النوع من الجرائم الجنائية وهو »جرائم أصحاب السلطة المطلقة« أو جرائم ذوي الياقات البيضاء، وإذا كان المصطلح الأخير يختص بمجرمي الطبقة الراقية من ذوي المناصب الإدارية الكبري ومن يحيطون عادة بالرؤساء الفاسدين، فإن المصطلح الأول يختص بالرؤساء تحديداً أو رؤساء الوزارات، وهناك تشابه كبير يصل إلي حد التطابق بين الجرائم التي ارتكبوها وأسبابها ودوافعها وكيفية وقوعها وضبطها والأسباب التي أدت إلي قيام الثورات والنهايات التقليدية الدرامية المفجعة لكل منهم، سواء تم اغتيالهم أو قتلهم والتمثيل بجثثهم أو محاكمتهم والحكم عليهم بالإعدام أو السجن مدي الحياة. وإذا كانت الصحافة في مصر قامت بواجبها وزيادة في تغطية محاكمات الرئيس المخلوع وبطانته، إلا أن المؤلف هنا اختار أن يتناول الموضوع تناولاً قانونياً صرفاً، بمعني أنه لم يلجأ للعبارات الحماسية والكلام الإنشائي العاري من الأسانيد، لذلك ناقش بتوسع القضيتين الأساسيتين اللتين حوكم فيهما المخلوع وهما قضية قتل المتظاهرين بالاشتراك والتحريض، وقضية استغلال النفوذ والتربح والإضرار العمدي بأموال الدولة والحصول علي منافع وأرباح مالية له ولأولاده وزوجته وغيرهم من المسئولين. من جانب آخر أورد المستشار مراد أسباب ومنطوق الحكم الصادر بجلسة 3/6/2012 في القضيتين 1227 لسنة 2011 جنايات قصر النيل، و3642 لسنة 2011 بشأن إدانة مبارك ووزير داخليته بالسجن المؤبد، واللافت للنظر أن المحكمة أكدت في حكمها أن مبارك والعادلي، خلال المدة من 25 يناير إلي 2011 يناير، واشتركا مع مجهولين بطريق المساعدة في ارتكاب جرائم القتل العمد والشروع فيه، وأحجما عمداً بصفتهما الوظيفية عن إتيان أفعال إيجابية تقتضيها الحماية القانونية المكلفين بها دستورياً وقانونياً. ليس هناك مجال التعليق علي المحاكمات وخصوصاً فيما يتعلق بتبرئة مساعدي القاتل الذي أقرت المحكمة أنه قاتل وهم اللواءات رمزي وفايد والشاعر وعبدالرحمن يوسف وغيرهم. علي أي حال كل ما يتعلق بمبارك الذي خلعناه والحمد لله نشر بتوسع واستفاضة وتم توثيقه في كتب عديدة، أما خلع وهروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، فيحتاج إلي وقفة خاصة، فهو عميد الرؤساء المخلوعين وأقدمهم وأول العنقود، والمثير للدهشة أن هناك الكثير من مظاهر القمع والفساد واستغلال النفوذ، وسيطرة البطانة الضيقة المحيطة الرئيس وزوجته وأولاده، فشقيق ليلي الطرابلسي زوجة بن علي يعد عراباً للفساد وأباً روحياً للصفقات المشبوهة، ودخلت زوجة بن علي سوق الفساد من أوسع أبوابه، فكانت تشتري أراضي وتقوم بتسقيعها ثم تبيعها وتربح المليارات، بل إنها استولت علي أموال سها عرفات زوجة الرئيس الفلسطيني الراحل وطردتها من تونس. والثابت أن عائلة بن علي كانت قد نهبت 5 مليارات دولار من مقدرات الشعب التونسي، ووضعت يدها علي كل القطاعات: الإنترنت، الفنادق، العقارات، النقل، التصدير والاستيراد، الاتصالات، الإعلام، الرسوم الجمركية، وتوزعت هذه القطاعات كملكية خاصة لصخر الماطري مهر بن علي وزوج ابنته نسرين، وسليم شيبوبة زوج ابنة الرئيس الكبري، ومروان مبروك زوج ابنته الصغري، وسليم رزق زوج ابنته من زوجته الأولي. وهكذا يمكن للقارئ أن يستبدل أسماء صخر وشيبوب ومروان بعلاء وجمال وراسخ مثلاً ليكتشف إلي أي مدي وصل التطابق في الفساد والنهب المنظم لثروات شعب كامل وإفقاره وإهانته وقمعه. كما يمكن للقارئ أن يستبدل التهم الموجهة للعصابة التونسية بالتهم الموجهة للعصابة المصرية، فمثلاً دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بتونس اتهمت زين العابدين بن الحاجة حمدة بن الحاج حسن بن علي وابن سالمة حسن تونسي الجنسية ومولود في 3/9/1936 متزوج ورئيس دولة سابق وقاطن بالقصر الرئاسي بقرطاج إلا أنه في حالة فرار بالاشتراك مع ليلي بنت محمد بن رحومة الطرابلسي وابنة السيدة الظريف تونسية ومولودة في 24/1/1956 متزوجة ولها أبناء إلا أنها في حالة فرار. الاتهامات هي ذاتها الاتهامات التي وجهت لرئيسنا المخلوع وعائلته، وصدر الحكم ضدهما بالسجن 35 عاماً وتغريم بن علي 50 مليون دينار تونسي وزوجته 41 مليون دينار. وتواصلت الاتهامات في قضايا أخري، غير أن المثير للدهشة فعلاً هو هذا التطابق بين الرئيسين، فكلاهما استغل نفوذه وتلاعب في البورصة والبنوك ومحطات استقبال السفن السياحية وتدخل تدخلاً سافراً في أحكام القضاء والفساد السياسي وتفصيل القوانين والقرارات إلخ.. إلخ. أما بقية رؤساء العصابات من كبار البلطجية الذين شغلوا مواقع المسئولية كرؤساء دول، فسوف أواصلها في الأعداد القادمة.