أمس كان السهاد موجعًا. من العتمة وثب مشهد لا أعرف مصدره. كنت فيه واقفًا بجانب شجرة جازورينا عملاقة متكئًا علي أحد أفرعها. حولي يجلس رجال، ونساء، وأطفال علي كراسي خيزرانية. كأنهم ينتظرون محاضرة مني. المفارقة لم تفجعني في البداية، فالكرسي ابن الشجرة، والآدمي ابن التراب الذي أسحقه بقدمي، وأنا أستعد للكلام الآن؛ لأواري خجلي أمام الجموع.. قلت: سأحكي لكم شيئًا حدث لي، وإلي اللحظة لا أعرف كيف. ذات ليلة كنت في القاهرة، ودهمني الليل فجأة. ذهبت لأقضي الليل مع أصحابي. فقراء كانوا وجوعي. كل واحد منهم كان يتمدد علي حشية من الاسفنج في جانب الحجرة. ظل أحدهم يردد علي مسامعنا حكايات عن العفاريت التي كان يراها في الغيطان ليلاِ وهو يروي حقله في القرية. أناوشه قائلاً بأنني لا أؤمن بوجود العفاريت، ولدي أسبابي المنطقية التي يمكنني مناقشته حولها. قطع حوارنا صوت طرقات متوالية علي الباب. قال لي أحدهم: قُم. افتح الباب. لأني ضيفًا عليهم لم أرد أن أحرجهم رغم جرحهم إياي بهذا الاستقبال الهش. مضطربا تحت وقع المفاجآت غير السارة فتحت الباب. واجهني فتي أسمر. شعره حالك كالليل. منسدل علي ياقته. يرتدي قميصًا نيليًا وبنطالاً من الجينز. ويحمل حقيبة بنية علي كتفه. سلم عليَّ بحميمية. تصورت أنه أحد معارف أصدقائي في القاهرة، وقد دهمه الليل مثلي بالضبط دون أن ينهي أعماله فأتي ليبيت هنا بدلاِ من النوم علي أرصفة الميادين. لما دخل الحجرة نظروا له بإجلال، وقاموا من رقادهم محدقين في باستفسار. ساعتها كنت في حيرة من أمري فقلت: هل هو صد... رد مسرعا:أنا حمادة. ازيك يا سالم، ازيك يا محمود. ماتعرفونيش، أنا جيت مخصوص عشان أوفي نذر... قلت مباغتا بالمفاجأة: أي نذر؟! قال لنا: سأذهب أولا لأحضر لكم عشاء. أوصلته حتي الباب وأنا نصف غائب عن الوعي فقد قال لي في صالة الشقة لقد رأيتك أكثر من مئة مرة وشاهدتك وأنت ت ....... و........ و........ ذاكرتي لم تسعفني بوجوده معي في أي موقف مما حكاه. ضرب الرعب جوانحي، وقبل أن أسأله أمام الباب كيف رآني كان قد خرج مسرعا، وما هي إلا لحظات حتي عاد وبيده دجاجة مشوية، وبعض الخبز، والخضروات، وعُلب العصير.. في الصباح وأنا أحمل حقيبتي؛ لأغادر واجهني جار يسكن بجوار أصدقائي: - سؤال لو سمحت يا أستاذ؟ - اتفضل. - انت ممثل مسرحي؟ كان يضحك ساخرا. قلت مستفزا: - ليه؟! - امبارح لقيتك بتكلم الهوا، وتفتح الباب وتقفله بسرعة. كنت طالع علي السلم واتفاجئت. خُفت منك، وانتظرت الصبح اسألك، أو اسأل زمايلك. التهمني الرعب تمامًا فلم أتحرك من مكاني إلا وقد اتخذت قرارا بأن أفحص ما حدث معي أمس دون أن أخبر أصدقائي؛ حتي لا ينكسر منطقي أمامهم. نقلت عنوان محل المشويات من فوق الكيس البلاستيكي. في هذا الحي الهادئ سيذكر صاحب المطعم من راح، ومن جاء إليه في منتصف ليلة أمس. جاء إنكاره لرؤية الشاب الذي وصفته له بدقة ليزيد مساحات الفراغ من حولي. أكاد أسقط في مكاني، لكن ما يزال هناك أمل، فالجميع قد يكونوا قد اتفقوا علي أن ينسجوا خيوط اللعبة حول رقبتي، فإما أن أعترف بما يؤمنون به، أو يدفعونني إلي الجنون. المفاجأة لم تأت بعد. (أوجه كلامي لمن يجلسون أمامي علي كراسي خشبية). المفاجأة جاءت في الليلة التالية حين كنت راقدًا علي فراشي. وجدته مشبوحا علي الزجاج الخارجي لغرفة نومي، وهو يحدق في بضراوة بينما عيناه تملأهما ابتسامة مرعبة كفوهة بئر جاف. سحبت مفرشا خفيفا؛ لأتشرنق داخله حريصًا ألا تخونني عيني وتنظر إلي الزجاج مرة ثانية. لم يأت النوم الذي انتظرته طويلاً. منظره المخيف تلبسني حتي أنني تصورته ينتظر اللحظة المناسبة لقتلي. كدت أصرخ في حجرتي من الرعب، لكني تراجعت حين نظرت لأسرتي الغارقة في النوم. منتظرًا الضربة في أي وقت دفنت وجهي في المخدة. كذلك توقعت أن النوم إذا التقمني الآن فسوف تكون الكوابيس رفيقتي خلال الليل كله. للحظات ظللت أرجو النوم أن يأتي فالكوابيس علي كل حال لن تقتلني.. بعد دقائق بزغ لي من بين الضباب نفس الفتي، وهو يضحك حاملاِ بندقية علي كتفه قائلاِ وددت أن أنهي حياتك لكنني لما اقتربت منك، وجدتك قد استحلت من إنسان إلي بومة تؤنس الليل الجهم بحكاياتها العجيبة التي أُدمنها. لم أنطق. فقط نظرت حولي. كانت الأجواء غائمة، ووجدتني أنظر من فوق فرع شجرة الجازوينا العملاقة، وصفوف الكراسي التي تخيلت وجودها في سهادي من قبل كانت شواهد القبور.