دائما يجمعنا الليل بالخال رضوان، نجلس معه في الفسحة أمام بيته البسيط الذي يتكون من حجرتين وصالة واسعة مفتوحة علي حوش كبير بدون سقف، أثاث بيته لا يتعدي سوي سرير مصنوع من جريد النخيل مفتول بجلد الإبل عليه حصير من نبات الحلْفا، أدوات المطبخ بسيطة أهمها ( كنكة ) الشاي والأكواب، ثيابه دائما معلقة علي حائط الحجرة الداخلية، صندوق خشبي قديم يسكن ركن تلك الحجرة، كثيراً ما سألناه عن محتوياته، يقول "ده وِرْث" ولايزيد عن ذلك بكلمة واحدة، يمتلك راديو " فيلبس " يتابع من خلاله كل الأخبار ويستمع إلي محطة "القرآن الكريم". في موسم زراعة الطماطم يقتحم الخال رضوان الأغوار التي تلُّف النجع، يجمع بقايا الخفافيش في أجْولة، يبيعها للمزارعين، حذرنَّاه كثيراً من الذئاب التي تسكن هذه الأغوار، لكنَّه يقول أنَّ الذئاب هي التي تخافه، ظل مصِّراً علي ممارسة هذا العمل الشاق. عند العصر يجلس مع رفاقه القدامي بجوار المندرة الكبيرة يلعب معهم ( السيجة )، لا يستطيع أحد أن يهزمه سوي عبدالله المهاجر الذي قضي حياته في القاهرة وكان يلعب الشطرنج مع البهوات، لم يتزوج الخال رضوان بعد زوجته التي عشقت ولدا قاهريا كان يعمل مدرسا في المدرسة الإعدادية، طلَّقها وبصَق علي وجهها بعد أن اعترفت له بعشقها لهذا المدرس، لم يكره في حياته سوي النسوان والموت، إذا ذكر أحد منَّا سيرة الموت أو النساء يزعل منه ويتركه، أكثرنا تهريجا مصطفي أبو درش هو الوحيد الذي ينكِّد عليه ويضغط علي جرحه النازف. في ظهيرة يوم قائظ وجدته جالسا تحت النخيل المرصوص علي شاطيء النيل يفْتل الحبال من ليف النخيل، صوت الشيخ محمد صديق يخرج صافيا مثل ماء النيل من خلال محطة القرآن الكريم، سمعته يقرأ معه سورة الكهف. السلام عليكم ياخال. أهلا يا ولد.... كلنا أولاد في نظره، لا يحب أن ينادينا بأسمائنا، جلست بجواره، فتحت الكيس، مد يده وتناول من البلح العجوة الذي يحبه، أكل حتي شبع، نزل إلي جرف النيل، غرف بكفيه العريضتين من الماء وارتوي، نظر إلي السفينة التي تشق كبد النيل متجهة صوب مدينة أسوان، تنهَّد قائلا : عارف ياولد، زمان لا كان في سفن ولاهباب، دي سفن وسخة بترمي وسخها في الماء الطاهر. لكن إيه الحل يا خال ؟ ولا حاجة، ده النيل أصيل، بيطهرنا ويطهر اللي خلفونا، علي رأي كبارنا قبل كدة. عاد مرة أخري لفتل الحبال بعدما أدار مؤشر الراديو إلي إذاعة مصر لمتابعة أخبار الساعة الثانية والنصف، كنت أساعده في عملية الفتْل، قبل أن تبدأ نشرة الأخبار زعق المؤذن عبر ميكرفون الجامع : يا أهالي النجع. قول ياغراب البين. ( هكذا ردَّ عليه ) توفي إلي رحمة الله أخوكم ربيع الصحيان وسوف تُشيَّع الجنازة بعد صلاة العصر، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. رمي الخال رضوان الحبل من يده وكأن ثعباناً عضَّه، ثم انكمش في نفسه وهربت عيناه صوب النيل.