إن الاختبار الذي مرت به مصر والدول العربية في يونيو 67 قد فرض عليهم إعادة النظر في مفهوم القومية العربية ومدي علاقته بالواقع، وبحث الإمكانات المتاحة لتحقيق هذا الحلم القومي ولكن تحت ضغط جديد هو تحرير الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في هذه المعركة وأصبح مصطلح » الأراضي العربية المحتلة بعد 67 » من المصطلحات الهامة في الأممالمتحدة،وأعادت مصر النظر في مشروع التنمية لأنه أصبحت لديها أراض محتلة وهي شبه جزيرة سيناء، مصر التي كانت قد تخلصت من الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والعدوان الثلاثي منذ عشر سنوات أو تزيد، تعود مرة أخري للبحث عن سبل التحرر من عدوان جديد من إسرائيل التي تساندها كل قوي الاحتلال القديم. يتوقف مشروع التنمية لتتوجه كل الجهود المصرية والعربية إلي معركة التحرير ويكتفي من هذه المرحلة بمبدأين أساسيين أن ناصر ورفاقه من حكام مصر أعادوا حكمها للمصريين للمرة الأولي في التاريخ منذ عهد الفراعنة رغم كل محاولات استقلالية القرار في عصور مختلفة، كانت لقيمة مصر وقوتها في منظومة شمولية تكون جزءا منها رغما عن حاكمها الاجنبي والمبدأ الثاني أن العالم لن يسعده كثيرا أن تحقق مصر أهداف ثورتها من العيش والحرية والكرامة الإنسانية وأن النجاح الاقتصادي الذي حققته مصر في بداية الستينيات عبر مشروعاتها الكبري الذي تعلمت منها الكثير من الدول باعتباره نموذجا متميزا للتنمية مثل اليابان والصين وكوريا والهند ليس مرحبا به عالميا وخاصة أن مصر تقود الصراع العربي الإسرائيلي. أعاد ناصر ورفاقه النظر في كل المسلمات التي قامت عليها ثورتهم وأعادوا بناء قوتهم بعيدا عن الأحلام الرومانسية الثورية وأسسوا علاقتهم بالعالم علي أسس نفعية براجماتية فتم تغيير قيادات الجيش بقيادات شابة وبدأ الاعتماد علي جيل من شبابها المتعلمين وخريجي الجامعات ليقدموا أغلي سنوات عمرهم هدية لمصر ويمتد معها التجنيد الإجباري لهذه النخبة إلي سبع سنوات أو تزيد؛ فكانت حرب الاستنزاف ملحمة بين شعب عنيد يرفض الهزيمة وجيشه من شباب أبيّ يسعي لاسترداد الكرامة والحرية، ونظام سياسي يعيد توظيف إمكاناته وموارده طبقا لأولويات ومتطلبات المرحلة الجديدة. دفع المصريون ضريبة الدم عن رضا لدواعي الكرامة وقدموا زهرة شبابهم إيمانا بأن مصر يجب ألا تنكسر أمام حالات العدوان المتكرر وأدركوا سريعا أنه لا حل لهذه الكارثة إلا بالعلم والشباب والتخطيط الجيد لمعركة طويلة المدي وهو قرار صعب علي أي أمة ما لم تكن قوية ومتماسكة ولديها قدرة علي التحمل لما واجهها من ظروف صعبة داخليا وخارجيا. إن صورة مصر التي اهتزت بعد هزيمة 67 وانهيار حلمها الذي غرسته بقواها الناعمة في العالم العربي كله، لم يثنها عن استكمال حلمها في بناء السد العالي مستفيدة من التعاطف الروسي مع الثائر المنكسر فتواكب بناء السد مع بناء القدرات العسكرية للقوات المسلحة، ومثلما كان شباب مصر هم طليعتها في ثورة 1952 كان شباب مصر بمثابة حائط الصواريخ الذي حمي ترابها الوطني من عدوان الطيران الإسرائيلي الذي طال كل مطاراتها في 67، كانت أياما عصيبة لهذا الشعب الذي غني دائما للحرية والعدل وواجه منظومة دولية تآمرت علي مستقبله، ومشككين في الداخل يري بعضهم أن هذه الهزيمة هي عقاب سماوي للرجل الذي تخلص من جماعة الإخوان الإرهابية ولم يخف بعضهم شماتته في ناصر ورفاقه الذين أعادوا توزيع الثروة والسلطة علي جموع الفلاحين وأبنائهم شأن كل ثورات التحرر في إطار سعيها للعدالة الاجتماعية. في اللحظات الأولي تحمل الرجل المسئولية الكاملة عن الهزيمة بنبل وفروسية لكن جموع المصريين رفضوا أن يتخلي القائد عن موقعه أو يتنحي جانبا فألزموه بالاستمرار في مهمته ليعلن حربا عادلة للتحرير وهو يعلم أنه في هذه المرحلة ملتزم بتصحيح المسار الذي شابته سلبيات كثيرة من بينها العفوية وحسن الظن بالرفاق وعدم الوعي بأن العالم يدخل مرحلة جديدة من الرأسمالية تنمي القيم الفردية وتعلي من شأن المصلحة الذاتية، لكنه استند علي عمق الحضارة المصرية وقدرتها علي التكيف مع أحلك الظروف وعلي الأسس التي بني علي أساسها الجيش المصري وخاصة التجنيد الإلزامي الذي يجمع كل شباب هذه الأمة أبيضها وأسودها مسلميها ومسيحييها حيث الجميع في خندق واحد وهو المبدأ الذي يجعل من هذا الجيش قوة حقيقية تحمي ثقافة الدولة الوطنية.