صدرت عن "دار روافد" رواية "كلمات يونس الأخيرة" للكاتب "يوسف نبيل" وهي الرواية السادسة له. يشي غلاف الرواية ببصمة خاصة ونوع من التحيز الإنساني الفني ضد رتابة التكرار فتبدأ بلوحة فنية مميزة ل"ماريا سمير" تدخلك من الصورة إلي الحدث مباشرة، ومن الرصد إلي تفصيلات الوقائع ومردودها علي المتلقين. أما الفقرة المختارة لغلافها فتدخلك في شك حول "بداهة" العلاقة بالله، وتتركك في استنكار بل قل في خجل مما نتوارثه ونورثه لتصبح "منذ تلك اللحظة مبرمجًا بعمق ضد الحياة". أما السطور الأولي للرواية فتضع للقارئ زمنا للقراءة وتؤكد عليه إذ إنه اليوم الواحد الذي احتاج فيه بطل الرواية ناقدًا يقرأها وينتقدها.... نعم كما فهمتم تماما الرواية تحمل داخلها رؤية نقدية لذاتها، حيث أدخل الكاتب شخصية دكتور "جلال" الأستاذ الجامعي والناقد لا ليلعب دورًا في أحداثها فقط، بل ليصبح عينًا ناقدة لما تطرحه الرواية من تقنيات سردية ولغوية. ولا أدهش بل أحس بصدق هذه الشخصية -الدكتور جلال- حين أجدني أتفق معه تماما فيما وجهه من نقد للرواية. يبدو لي منذ الصفحات الأولي أن كاتبها يحمل مشروعًا ما أراد له الاكتمال وأعطاه أبعاده الحقيقية. بالطبع لا يجدر بي التحدث عن روايتي يوسف الأخيرتين (في مقام العشق- العالم علي جسدي) لسبب يعلمه متابع، لكني أتحدث عن معطيات بدأها الكاتب في رواياته (كسر الإيقاع، موسم الذوبان، مياه الروح) حيث الأحداث التي تضع أمام الشخصيات بصيرة واستنارة وتنتظر فيهم شرف ما بعد إدراك الحقائق وتختبر فيهم القدرة علي المقاومة. أذكر في "مياه الروح" حين ينهي يوسف روايته ب"وماذا بعد يا أبي؟" ليجيب الروائي نفسه وشخصياته بطرحه لذلك المشروع وتلك الرؤية في روايته الجديدة. تتبع الشخصيات الرئيسية اتجاها نقديا لكل المعطيات البديهية التي تحيطها؛ فتجد نفسها تدور في دائرة مزيفة في حين تشعر بمدي اغترابها عن ذلك المحيط، تتكرر تلك الأزمة مع "يونس" و"يوحنا سامي" و"حازم مهران" لينتابهم الشعور ذاته حين "يسير مدة طويلة غير واع بالعالم من حوله. سيشعر باختناق شديد، وكأنه للوهلة الأولي لا يطيق رؤية أحد.." كما تصل لحالة الاستبصار ذاتها حين "تتكثف الرؤية بهذا الشكل في لحظات معدودة لتري الأمور كأنك تنظر من خلال عدسة مكبرة"؛ فصَّلت الرواية المعطيات الزائفة التي تحيطنا وتخبطت الشخصيات في الواقع الديني، والاجتماعي والسياسي ورفضته. وقد عرضت الرواية مجموعة من الأحداث الفاضحة لزيف بعض الاتجاهات المستترة بالدين وكيف أننا نواجه مجموعة من الموروثات المشوهة حول الدين. في حين تتصادم الشخصيات مع زيفها علي المستوي السلفي والكنسي والمؤسسات الدينية؛ يحتد التصادم حين ينهار يونس داخل كلية الضباط ليكتشف عالما جديدا من الزيف. كانت الرواية في جزئها الأول بمثابة "كاميرا" ترصد مجموعة من "الخيانات" التي نمارسها بالتماهي مع الزيف الذي يحيطنا، وكما قلت فإنني أتفق مع الناقد حين ينهي الجزء الأول ليقول إنه جيدا جدا وينتظر تطورًا لشخصية يونس. أما الجزء الثاني للرواية فستجد توجهًا أشار الكاتب إليه بوضوح ضمن أحداث روايته وكذلك في صفحة الرواية الأخيرة كمراجع أفادته في الكتابة؛ حيث تفتح مجموعة من الكتب أمام شخصيات الرواية توصيفًا دقيقًا لأزمتهم وتلهمهم مخرجًا جديدًا. هذه الكتابات هي "كتب إريك فروم وجاليانو وجارودي وكارين أرمسترومنج" ولم تكن هذه الكتابات وحدها التي شكلت توجهات إحدي شخصيات الرواية لكنه أضاف إلي قائمته "ذاكرة القهر" و "كل رجال الباشا" وأعتقد أن تخصيص كتابات بعينها من الكاتب علي لسان إحدي شخصياته أعطي مساحة جديدة لفهم أبعاد وخلفيات تلك الشخصية. وحدث بالفعل أن تصادقت شخصيتان من الرواية نظرا للمرجعية الثقافية الواحدة التي تجمعهم. تدشن "كلمات يونس" أفكارًا ليست "الأخيرة" في محاولة لمقاومة الانهيارات المحيطة بعمل مشروعا موازيًا يجمع أصحاب الأزمة نفسها حيث "..الأمر في البداية لن يتعدي تشكيل مجموعة لا تشعر معها بالغربة." ولا تأخذ الشخصيات الفكرة في تكوين مجموعة كنوع من النشاط الاجتماعي أو الثقافي أو الترفيهي، بل وجدت في الأمر من جدية ما يجعلهم متمسكين بالفكرة دون زعزعة أو محاولة لإقناع مزيد من الأفراد؛ ف "لا حاجة لنا بإقناعك..... إن كان الأمر يتعلق بعدم شعورك بالاحتياج الفعلي لهذا، فإني لا أستطيع إقناعك به ولا أجد سببًا وجيهًا لاشتراكك." أما عن دافع الشخصيات في عدم محاولة الإقناع فنابع مما رصدته الرواية من موقف بعض الثوار الانتكاسي تجاه الثورة "كانت تخبرني أن الدماء سالت هدرًا، وأنه لم يكن لكل ما حدث من داع"، أو الموقف المتخاذل للمؤسسات الدينية وغيرها من أحداث الاعتداء علي الثوار "تم الاتفاق مع محامي الضحايا والضغط علي الأهالي لسحب قضاياهم ضد الجيش." وكانت من الأهداف المباشرة للمجموعة هو رفض التكيف مع تلك التشوهات. ربما تردد بداخلي استفهام حين وصولي هذه النقطة، عن مدي صعوبة تحقق مبادئ المجموعة علي المستوي الواقعي والحياتي، إلا أن الكاتب أحضر إليَّ استبشارًا أثلجني حين أفهمني "يوحنا" فقال: "بعدها جاء دوري فقلت إني تعلمت أن أمام كل امرئ عدة فرص، ولكن مع ضياع كل فرصة تزداد الفرصة الأخري صعوبة ويصبح الأمر عبثيًا في النهاية. بعض الأبواب يمكننا فتحها ولكنها ستكلفنا ثمنًا باهظًا، وبعض الأبواب لا يمكن فتحها إلا في زمن معين." ولأن الفكرة قد آمن بها البعض ولأنها في زمن التحقق أوجد لها أفرادها تنظيرا وأسسا أفاض الكاتب في الحديث عنها في الجزء الثالث. وقد لخص قواعد للعمل في ثلاث نقاط "1- لكي يعيش المرء حياة إنسانية فعليه أن يتمتع بثمرة عمله بالكامل. 2- علي المرء أن يكون قادرًا علي تعليم نفسه. 3- عليه أن يرتبط بفاعلية بالعالم بأسره." يُكثر الجزء الأخير من تفاصيل المجموعة وتوجهاتها ويشير إلي مجموعة من المشاريع والمحاولات التي سبقته علي المستويين التاريخي والروائي، في حين يمكن أن تتلخص الفكرة في كلمات "عبر أحدهم عن الأمر برمته في كلمات موجزة رائعة: إن هدف جماعة العمل هو جعل النمو الكامل للإنسان ممكنا." أتفق لمرة أخيرة مع "الناقد" حين ينبه "يونس" إلي استطراده النظري للأهداف وكأنه مفكر لا أديب والذي قد يُشعر القارئ بالملل وينصحه "كان عليك توظيف ذلك في قلب الرواية... ألم يكن ممكنًا مثلا أن يكتشفوا بعض هذه القواعد من خلال مواقف عملية؟" ورغم رد يونس علي ناقده بوجود مثل تلك التوثيقات داخل أعمالا عربية وأجنبية إلا أنني لازلت أري في ذلك التنظير استطرادا مطولا كان من الممكن إيجازه. إلا أنني بعد قراءة كلمات يونس ولمرة أولي لا أتفق مع الناقد حين يتساءل: "أتصدق فعلا أن هناك بديلا لهذا النظام العالمي؟ أخشي أن تكون بهذه السذاجة. أنفاسنا متوقفة علي الموافقة علي السير داخله. الأمر لا يتعلق بمجرد تهديد أو خسارة أو ما شابه. الأمور أكثر حتمية وتعقيد من ذلك بكثير.... فأنت مجرد شاب ساذج... النظام لا تحركه مؤسسات ولا أفراد ولا قوي شر ما. بل حتمة!" أختلف كاملا من الناقد حين أري البذرة التي ترفض قيود الحتمية. يوسف نبيل الذي أنهي "مشروع" إن حقت لي تسمية أعماله بالمشاريع أنهي مشروع "مياه الروح" بسؤاله "وماذا بعد يا أبي؟" ينهي مشروعه الروائي الأخير "كلمات يونس الأخيرة ب"لنبدأ العصيان!" لتصبح كلماته الأخيرة لا نهائية.