لم يخني الصوت من البداية. كان يئن. وكان كل شيء وقتها هادئاً؛ السماء والناس والعربات، حتي القطط والكلاب الضالة. كأن الجميع ينصت. توقفت لأنصت. في الحقيقة حدث ذلك رغماً عني. لقد سحرني، وجعلني أمشي وراءه مثل أعمي يلاحق النور ومثل مجذوب يريد أن يصل. كدتُ أبكي والله، لكنني لم أفعل. لا لقوتي الخارقة، إنما لعجزي. أنا مأخوذة بالكامل، وليس باستطاعتي أن أنطق، هل هذا جن، ربما.. من يدري؟! الصوت يعلو كل مدي، ولم أصل بعد، حينها.. جاء في بالي جلال الدين الرومي، كأنه أراد أن يدلني علي شيء: "أنصت إلي الناي يحكي حكايته/ ومن ألم الفراق يبث شكايته: مذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون/ أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق/ لأبوح له بألم الاشتياق". هناك حكاية إذن. صرتُ أردد بداخلي. هناك ألم أيضاً، هناك أشياء كثيرة سأعرفها حالاً. الثواني تمرُ عليّ كدهر، أريدُ أن أري عازف الناي، لماذا يحجب نفسه عنّا؟ لماذا يجعلنا نسمعه ولا نراه؟! الأسئلة تتراكم ولا إجابة عندي، لكنني - رغم ذلك - لم أتوقف، لازلتُ أمشي وراء الصوت، وكان يمشي إليّ دون أن أدري، وبعد لحظات، وبشكل مفاجئ، ظهر في وسط الطريق. عجوز، يرتدي جلباباً متواضعاً. يعلق في كتفه حقيبة سفر، ومن رقبته تتدلي حمالة قماش يضع فيها عددا من النايات، وعلي رأسه عمامة بيضاء. يتكئ بذراعه اليسري علي عكاز خشبي عريض. قصير القامة. لديه شارب كث وذقن خفيفة، لديه عينان أيضاً، لا أمزح، عينان ممتلئتان بماء البحر. تسمرت أمامه، وقلت له: "يا سلام علي الجمال". ضحك العجوز، لا، كان يجرب أن يضحك، وسألني: "عايزة تسمعي إيه؟" قلت: "أي حاجة"، فواصل أنينه، وحين اكتفي، طلبتُ منه أن يخبرني بالحكاية. "أنا اسمي الريس رمضان الحياوي.. أنا فنان أصلاً". قال مفتخراً بنفسه. "وما الذي حدث.. وما كل هذه النايات؟". سألته. "أبيعها.. أكل العيش، كمان ببيع فوريرة، وزمامير". يُجيب مبتسماً. وعرفتُ أن له ورشة، وأن له فرقة، وأن الزمن قاس جداً، وأنني لا أريد أن أعرف عنه - في هذه اللحظة - أكثر من ذلك، واستأذنت أن أزوره، فأعطاني عنوانين، واحد في مركز الصف الذي يقع جنوب حلوان ويتبع محافظة الجيزة إدارياً، والآخر في مدينة القناطر التي تقع في محافظة القليوبية، وأوضح أن الأول عنوان ورشته، والثاني عنوان بيته. فات أسبوع، وأنا لا أزال مأخوذة، وأنينه في القلب يسكن. قررت - أخيراَ - أن أذهب إلي الصف. ساعتان وأكثر. طرق وعرة، ومشقة هائلة. الريس رمضان ينتظرني من "صبحية ربنا"، يتصل بي كل نصف ساعة، قائلاً في كل مرة: "لما توصلي عند مقام الشيخ مَسعد في قرية الإخصاص في الصف، هتلاقيني قدامك"، وحين وصلت، استقبلني بترحاب دافئ. أخذني إلي بيت ضيق، يشبه كل البيوت من حولنا، وما إن تجاوزنا عتبته، أشار إلي غرفتين متجاورتين، وقال إنهما ورشته. بصراحة لم أكن أتخيل المشهد كذلك، لا لسبب محدد، ولا لأنه أعطاني انطباعاً مغايراً، لكنني لم أتخيله كذلك. إضاءة خافتة للغاية، الغرفة الأولي مفروشة بحصيرة متوسطة الحجم، عليها علب كثيرة من السجائر، وعدد من النايات التي انتهي للتو من صناعتها، إنه ينام هنا، بل يعتكف، يصلي ويعزف ويبكي متي يشاء. أما الغرفة الثانية فممتلئة بعيدان الغاب أو البوص، ويجلس فيها حين يعمل.. اختار أن نتحدث في الغرفة الثانية. لم يكن هناك كرسي واحد، أو حصيرة، فعل شيئاً لم أتوقعه، رفع طرف جلبابه، وخلع رجلاً صناعية، ثم جلس علي الأرض بتلقائية شديدة، جاء جلال الدين الرومي في بالي مرة أخري ليستكمل قصيدته (أنين الناي): "لم يكن سري بعيداً عن نواحي، ولكن/ أين هي الأذن الواعية، والعين المبصرة؟/ فالجسم مشتبك بالروح، والروح متغلغلة في الجسم/ ولكن أني لإنسان أن يبصر تلك الروح؟". ابتسم الريس رمضان، ابتسم من قلبه، وقال: "قدر ربنا". ثم حكي القصة من أولها. كان والده إبراهيم الحياوي، رجلاً فقيراً، يعزف الناي، ويجيد صناعته، ولم يكن لديه ابن غيره، لذلك حرص أن يعلمه الناي، ويورثه الصناعة والأنين. بدأ رمضان حياته كأي طفل، يلعب في الشارع وحين يحل الليل يعزف، يذهب إلي المدرسة ويعود إلي البيت ليعزف، لم يكتف بحصوله علي دبلوم التجارة، اتجه إلي معهد الموسيقي وقال لهم إنه يعزف، لم يلتفت أحد إليه، وعندما أخرج من جيبه الناي، أنصتوا. اقتنع به أستاذ الموسيقي سيد عزب، وتبناه، فدرس معه قواعد العزف علي الناي. حفظ السلم الموسيقي (دو، ري، مي، فا، صو، لا، سي)، وعرف أنه كلما رفع إصبعاً من علي المفاتيح الستة في الناي، يبدأ السلم الموسيقي، إلي أن تنطلق ال "سي" في النهاية، كطير طليق. اعتقدتُ أن الأمر سهل، أمسكتُ ناياً، ووضعت أصابعي علي المفاتيح الستة، لكن أنيني لم يخرجُ، ضحك الريس رمضان حين قلت له: "الناي دا بايظ ولا ايه"، فأخذه مني، وأمسكه بشكل أفقي، في اتجاه كتفه اليمني، لم ينفخ بملء فمه، وضع فوهة الناي علي حافة شفتيه، وأطلق لحناً حزيناً، وأخبرني بعدها، أن التحكم في المفاتيح مع النفس، هما اللذان يخرجان اللحن. كان يذهب إلي المعهد ثلاثة أيام في الأسبوع، وباقي الأيام كان يقضيها في القليوبية، حيث كان يعمل باليومية في أحد مصانع الطوب الأحمر، يرفع القوالب علي ظهره مثل كل الرجال، وفي أوقات الراحة يعزف لهم، ليفرغوا كل الحزن الذي بداخلهم، فيعودوا إلي العمل بعافية لا مثيل لها. وحين أتم دراسة الناي في المعهد، حصل علي كارنيه (عازف ناي أول) بتوقيع من الموسيقي الكبير أحمد فؤاد حسن، وبدأ طريقه سريعاً في الفن، إذ عمل مع كثير من الفنانين الشعبيين والمنشدين مثل محمد طه وجمالات شيحة وفاطمة سرحان وخضرة محمد خضر ومحمد المحلاوي وياسين التهامي وغيرهم. لكنه أراد أن يشعر بالأمان الوظيفي، وأن يأخذ معاشاً بعد الستين، فذهب الريس رمضان وهو عمره 25 عاماً إلي إحدي شركات حديد التسليح في شبرا الخيمة، ليحصل علي أي وظيفة، وعندما قابل المدير، عزف له، فانتشي الرجل، وعينه مشرفاً علي العمال. ولم يكن يعرف أنه يذهب إلي الألم برجليه. في سنواته الأولي من العمل بالشركة، بينما كان منهمكاً مع العمال، سقط عليه (كمر حديد) وأصاب رجله اليسري، دخل إلي المستشفي، وخرج منها وهو راض تماماً، وقرر أن يواصل حياته دون أي إحساس بالعجز؛ استكمل عمله بالرجل الصناعية، ظل يعزف في الموالد والأفراح الشعبية، أنجب ثلاثة أطفال آخرين ليصل عدد أبنائه إلي خمسة. لم ينجذب ابناه محمد وأحمد إلي عزف الناي، ولم يستكملا تعليمهما، ولم يحترفا أي صناعة، وبالطبع رفضا أن يبيعا الفوريرة والمزامير، ما جعل الريس رمضان يخشي من أن يضيع معه ما ورثه عن أبيه. ينظر إلي عيدان الغاب المتراصة بجوار بعضهما البعض قائلاً: "ربنا كتب علينا نكون قليلين"، فهو يعتقد في أحاديث ضعيفة تقول إن سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ضاعت عليه إحدي الصلوات، حين أنصت إلي راعي غنم وهو يعزف بالناي، فدعا الله بأن يكون الغاب كثيراً، ولا يضرب به - أي يعزف به - إلا القليل. "هذه سنة الحياة". يستكمل الريس رمضان الذي زهد كل شيء، فطيلة حياته لم يسع إلي شهرة، أو إلي "تحويش" المال، يبلغ من العمر الآن 67 عاماً، يقيم وحده في الصف، فقد زهد أيضاً عائلته التي تسكن القليوبية. يظل بالساعات جالساً بين عيدان الغاب، ينظفها ويقشرها، ويصنع الكثير من النايات، وهو يعلم أنه قد لا يبيع إلا واحدة منها، ليس في الشهر، بل كل ثلاثة أشهر. يذهب مع فرقته - التي شكلها منذ سنوات باسم (أحباب بيت النبي) والتي تتكون من ثمانية أفراد يعزفون آلات مختلفة مثل الكمان والربابة والعود والطبلة - إلي أي حفل في قريته والقري المجاورة، فهو معروف هناك ومعروف أيضاً في مختلف المحافظات، كما يحرص أيضاً علي حضور الموالد والحضرات الصوفية لينشد ويثمل من الناي. توقف الريس رمضان عن الحكي، وطلب مني ألا أسأله عن أي شيء آخر، خضعتُ لرغبته، لكنني طلبتُ منه - في المقابل - أن ينشد شيئاً من تأليفه، فقال "بس كدا"، وما أن خرج أنينه، تجمع عدد من الأهالي في مدخل البيت، الذي كان مفتوحاً، فوقف بينهم، يعزف ويحرك كفيه ورأسه، وهو في حالة من النشوة: "يا محلي الحُب لما يكون من القلب من جوا يعيش مع الذات.. وذات الغرام هو أنا بنادي علي رب العباد مفيش غيره هو أنزل جبريل علي النبي محمد، وأنزل عليه القرآن كلمة منه هو الحب مش باللسان يابن آدم.. الرك علي القلب من جوا ياما ناس في الدنيا مناظر.. وحالها مقطرن من جوا أروح لمين وأقول يا مين.. يامّا يا زينب دا انتي اللي ليا أصل الغرام منك يا ماما.. شوق وحنية ولد وحبه النبي محمد.. أخد شهادة عالمية دخل الامتحان، وحوله سيدنا الحسين علي أمنا زينب عطيتله المشيرة ميه علي ميه.. وكتب اسم الله علي الميه الرك مش عالسبح والعمم، الرك علي القلب والنية ياما ناس في الدنيا مناظر وهما شوية حرامية".