يفتتح الشاعر الأمريكي من أصل صربي تشارلز سيميك سيرته الآسرة "ذبابة في الحساء"، الصادرة مؤخراً عن الكتب خان بترجمة للشاعرة إيمان مرسال، بالتأكيد علي عادية قصته ومألوفيتها. "قصتي قصة قديمة وأصبحت الآن مألوفة. لقد تشرد كثير من الناس في هذا القرن. أعدادهم مهولة ومصائرهم الفردية والجماعية متنوعة، سيكون مستحيلاً أن أدعي تميز وضعي كضحية، أنا أو أي شخص آخر،إذا أردت الصدق." غير أن ما يكتبه يعد درساً في تحويل العادي والمكرر إلي فن خالص، واستخلاص الفرادة من قلب ما قد يحوله الكثيرون إلي كليشيهات. واللافت أن سيميك قادر أيضًا علي جعل من لم يمروا بتجاربه نفسها شركاء له فيها، كأنهم اختبروها وكانت جزءاً من تاريخهم الشخصي، ربما لأنه يلتقط التفاصيل الإنسانية البسيطة، ويعبر عن اشتهاءات البشر وآلامهم (أياً كانت مسبباتها) بصدق وبراعة. يبدأ المؤلف كتابه بطفولته في بلجراد خلال الحرب العالمية الثانية، حيث الموت حدث يومي، والخراب في كل مكان، والقصف لا يكاد يتوقف، لكن ما يتوقف أمامه، هو ما يتجاهله الآخرون غالباً في كتابتهم عن فترات مماثلة. قد يشعر البعض بأن سيميك يرصد سعادات الحرب وجماليات العيش في ظلها! لكن هذا ليس بالتوصيف الدقيق، ربما الأدق اقتراح أنه يقدم وجوهاً أخري للحرب، ويبرهن علي كيف يمكن للإنسان أن يخترع سعاداته الخاصة رغما عنها وعلي هامشها. كيف يمكن له أن يتمرد علي تأطيره في خانة "الضحايا" وينقل نفسه إلي خانة "الناجين" حتي ولو مؤقتاً. تلك آلية مقاومة يبرع فيها الأطفال والاستثنائيون، وسيميك ماهر في تقمص الطفل الذي كانه وفي التعلم منه. يقدم صاحب "المسخ يعشق متاهته" الحرب في أكثر من موضع باعتبارها لعب أطفال. حيث تتحطم القيود التقليدية ويتيح الخراب والفوضي للصغار مساحة للّهو. يكتب سيميك: "وفر لنا زمن الحرب ملاهٍ للرياضة وزحاليق وبيوتاً خشبية وحصوناً ومتاهات يمكن العثور عليها في ذلك الخراب عبر الشارع. كان هناك جزء قد تبقي من الدرج، كنا نصعد بين الحطام وفجأة تظهر السماء! (.....) نجلس بسعادة بين أطلال غرفة طعام شخص ما بالدور الثالث، يأتينا من الشارع تحتنا صياح واحدة من أمهاتنا وهي تشير إلينا بينما ابنها يهرول إلي أسفل مجاهداً في تذكر أين كان يضع قدميه أثناء الصعود. كنا نلعب جنوداً، استمرت الحرب. نزلت القنابل. ولعبناً جنوداً." في موضع آخر يكتب عن جلوسه في بيت جده لأكل البطيخ والتفرج علي المدينة وهي تحترق. "يصر جدي أن أجلس بجانبه. يقطّع لي الجبن ويعطيني رشفة من النبيذ الأحمر بينما نصغي لأصوات الانفجارات المكتومة." قد يخطر في بال قارئ ما تساؤل: هل فِلتر الزمن والمسافة بين المرء وبين أهوال الماضي هما المسئولان عن هذه النبرة المسيطرة علي الكتاب؟ وهو سؤال مشروع، لكن أولاً، كلمة أهوال تبدو مبالغًا فيها وناتئة هنا، فسيميك يصور أحداث ماضيه، بحلوها ومرها، كما لو كانت مسرات وسعادات رسبتها الذاكرة، لا مكان عنده للتفجع أو الإنشائية. وثانياً، من الواضح أن المسألة لا علاقة لها ببعد المسافة الزمنية (ليست العنصر الحاسم علي الأقل)، بل بسيميك نفسه وعينه المختلفة، فعلي امتداد الكتاب نلحظ عصاميته الفكرية وتشبثه بفرديته وحقه في العثور علي صوته الخاص والتمسك بعينه المختلفة عن الآخرين. يمكن تلمس هذا بوضوح حين يحكي عن معاناته في تطوير شعره وسعيه للإفلات من التكلف والتقليد وصراعه مع الكلمات واللغة. كما أن ما يذكره من أحداث وتفاصيل من فترات زمنية لاحقة، وبالتالي أكثر قرباً، مغلف بالمزاج نفسه. أكثر ما يلفت النظر في "ذبابة في الحساء" إذاً هو الإعلاء من شأن المتع الصغيرة والمسرات العابرة التي تخللت أصعب اللحظات ولونتها بلونها، كأن المؤلف مبرمج جينيًا علي اقتناص الملذات في أحلك الظروف. أقول جينيًا لأن كثيرًا من أقاربه، ممن يذكرهم في كتابه، يشبهونه في إقبالهم علي متع الحياة واقتناصهم لها وتحايلهم علي المصاعب كل علي طريقته الخاصة، وعلي رأسهم: والده المولع بالأطعمة الشهية والملابس الفخمة والحياة المرفهة، بغض النظر إن كانت إمكاناته المادية تسمح بها أم لا. والعم بوريس الذي كان بمقدوره "أن يجعل الأم تريزا تضرب بعصا البيسبول"، والذي كان بيته عامراً دائماً بالطعام والنبيذ الوفير. ونانا، خالة أمه، بطة العائلة السوداء ومبذرة الأموال باستهانة، التي كانت تتخذ من المسبات والألفاظ البذيئة وسيلة مقاومة. من بين ملذات الحياة العديدة يحتل الطعام المكانة الأولي لدي سيميك. يرد لفظ الجنة وتعريفها أكثر من مرة في سيرته هذه مقترناً بأطعمة لذيذة، كما مثّل الأكل دوماً عزاءً مثالياً له، لذا خصه بفصل كامل، افتتحه ب: "يمكن للمرء أن يكتب سيرته الذاتية عبر وصف كل وجبة استمتع بها في حياته، وستكون قراءتها أكثر متعة مما نقرأه عادة. بصدق، ما الذي تفضله، وصف أول قبلة أم الكرنب المطبوخ بإتقان؟" وهذا ما يفعله تقريباً في هذا الفصل، إذ يكتب سيرة مختصرة لنفسه عبر أشهي الوجبات التي تناولها في حياته، ومنها: بوريك دوبروساف سيفيكوفيتش، وكيك الكريم، لفائف الكاسترد وغيرهما من أطعمة قضي يوم 9 مايو 1950 يأكلها مع صديق له متنقلين من مخبز لآخر، ومكرونة لينجويني مع الأنشوجة ونبيذ صقلية الأحمر. رغم كل هذا، لا يتغافل سيميك عن صعوبة وضعه كلاجئ ثم كمهاجر، يرصد حاله البائس وملابسه الرثة خلال الفترة التي قضاها مع أمه وشقيقه في باريس في انتظار الهجرة لأميركا للحاق بأبيه، حيث قدمت له السينما عالماً خيالياً بديلاً عن واقعه المهترئ. ويذكر أن والده اعتاد ممازحته بسؤال: أين ستهاجر المرة القادمة؟ ف"مازالت تجربة القرن العشرين في المنافي مستمرة. من هم مثلنا كانوا حيوانات تجارب. أغرب ما في الأمر، أن يقوم واحد من فئران التجارب بكتابة الشعر." "ذبابة في الحساء" كتاب واجب القراءة، خاصة أن ترجمة إيمان مرسال السلسة، تتسم بأهم سمات الترجمة الجيدة: ألاّ تشعر بوجود وسيط بينك وبين الكتاب، كأنه مكتوب بلغتك.