اعتدت وأنا أستحضر قلمي للكتابة أن يكون قلبي وعقلي حاضرين بقوة وأنا أكتب ، واخترت طواعية طريقا ارتاح فيه قلبي عندما كنت أتحدث عن المستضعفين في شتي بقاع الأرض وخاصة المسلمين. واعتبرت رغم كل ما واجهته من صعوبات وعقبات مهنية ونفسية بالتعايش مع آلام هؤلاء الناس أنني من المحظوظات اللاتي يحملن سلاح الكلمة وأمانة نقل معاناة كثير من البسطاء المنسيين الذين لا يعترف العالم بوجودهم ولا حقوقهم بإعتبارهم من فئة الإنسان المنسي الذي سطروا من أجله ملايين القوانيين العرجاء التي لا تدين في أغلبها المجرم إذا كان من الدول العظمي. إذن مهنتي ولعبتي التي أجيدها هي الكلمات وقد خيل إلي أن 18 عاما في بلاط صاحبة الجلالة هي فترة كافية كي أتقن لعبة الكلمات..ولكن أدهشتني الحقيقة التي جعلتني أنسي كل الكلمات في رحلتي للحج لأنني أدركت ببساطة أن كل كلمات الدنيا لا تصلح لوصف حال حجاج بيت الله الحرام. منذ تلقيت مكالمة هاتفية من مكتب رئيس التحرير تزف إلي خبر سفري لأداء مناسك الحج بصحبة زوجي ، كان هناك شيء في قلبي يشبه اليقين أن الدعوة الربانية التي جائتني لزيارة بيته الحرام لأنني نصرت مظلوما يوما ما ولو بشق كلمة ، فما أكثر ذنوبي التي تجعلني أخجل من مجرد التفكير في أن أحظي يوما بدعوة ربانية لأنال شرف زيارة البيت الحرام وأسلم علي رسول الله في مسجده النبوي.ولكن إيماني بقوة الكلمة التي تدخل الجنة والكلمة التي تهوي بصاحبها إلي النار جعلني أصدق أنني سأذهب هناك يوما ما. الثوب الأبيض الوقت يمضي سريعا ، أصبح لزاما علي أن أعد تجهيزات السفر وأرتب كل شئ لأبنائي الذين سأتركهم لأول مرة في حياتي. وتعلمت أول دروس الحج فهي رحلة الترك لكل شيء عزيز وغال والخروج لوجه الله تعالي..فلم القلق هم في معية الله وحفظه. ولكن أصابتني حالة غريبة. فمنذ عرفت الخبر لم تعد عيناي تري غير اللون الأبيض في كل مكان وأصبح لساني يردد دون توقف » لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين».إنه أمر أشبه بالإعداد الرباني قبل السفر والذهاب للبيت الحرام. كذلك كانت فرحتي وأنا أشتري ملابس الإحرام البيضاء وكأنني عروس خرجت لشراء فستان زفافها استعدادا لبدء حياة جديدة مع من تحب. وتعجبت من سعادة أناس لا أعرفهم أقابلهم في كل مكان وعلي وجوههم فرحة وهم يباركون لي بالحج ويطلبون الدعاء. وكأن الجميع يزفني في عرس فريد من نوعه في كل شيء. أهل الحرم تعالت ضربات القلب ، تطايرت قدماي من فوق الأرض ، أهرول مسرعة في طريقي وأنا أتعجب من اختفاء ذلك الألم والورم الذي أصاب قدمي من ليلة شاقة وساعات وقوف طويلة في المطار قبل الوصول لمكة. دقائق قليلة تفصلني عن الدخول للمسجد الحرام ورؤية الكعبة الشريفة، بدأت روائح المسك تأتيني مع نسمات باردة قادمة من أمامي، ها قد حانت اللحظة التي انتظرتها طويلا وأنارت عيناي بنور الكعبة للمرة الأولي في حياتي..دخلت وسط أفواج وأفواج من كل فج عميق ، الجميع متشابهون رغم اختلافهم ، الكل يرجو ويدعو ويبكي.. ولكن مهلا أين الكلمات يا من ظنت نفسها تمتهن مهنة الكلام وتتقن فن الحديث ؟ يا ويلتي لم أعد أذكر شيئا ، كررت قول يارب وأنا أستجديه سبحانه أن يعطيني لسانا فصيحا أدعوه به وقلبا نقيا كي يقبل استغفاري وتوبتي ودعائي. أنهيت عمرتي الأولي وأنا أعيش في عالم آخر لم أكن أعرفه من قبل، وجلست أنظر للملايين الذين تتشابه ملامحهم من بعيد..هكذا سنكون يوم الحشر رجالا ونساءً، كبارا وصغارا لا فرق بين أبيض ولا أسود إلا بالتقوي والعمل الصالح ، الجميع سيسير في طريق واحد الكل سيحاسب ، والفوز لمن اتقي. شعرت بأن هذا المكان هو المكان الوحيد الذي تشرع فيه المنافسة لا الأنانية كما يظن البعض. من يدركون الفرق كانوا يتسابقون من أجل فعل الخير والفوز بالثواب المضاعف، الجميع يبتسم ويكرم من بجانبه ويوزع مما رزقه الله حتي لو كانت شربة من ماء زمزم..وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وكنت أخجل من نفسي كثيرا عندما أقف في السعي أو أشعر بتعب في الطواف وأنا أري حولي رجالا ونساء تخطوا الثمانين من العمر يتكئون علي عصاهم ويصرون علي الطواف سيرا رغم توافر عربات لكبار السن. ولن أنسي المشهد الذي أبكاني كثيرا وما وجدته من قوة إيمان وعزيمة وصبر لشاب في العشرينات مفتول العضلات بلا قدمين يمر بجانبي فوق عربته وأنا توقفت من الارهاق في طريقي لرمي الجمرات بينما هو يركض بالعربة وقد سبق العشرات كي يرمي رمية العقبة الأولي قبل الجميع. وتعلمت درسا آخر وفضل الحمد لله دائما علي كل حال. غثاء السيل أمام الملايين من حجاج بيت الله الحرام ظل هناك سؤالا حائرا نسأله أنا وزوجي طوال الوقت إذا كان ملايين من المسلمين يلبون نداء ربهم في لحظة، لماذا نحن أضعف من أن ندافع عن أنفسنا وعن ديننا وأصبحنا فريسة سهلة للأعداء؟ واستعذت بالله من الشيطان الرجيم من أن نكون نحن الغثاء الذين ذكرهم رسول الله صلي الله عليه وسلم في حديثه: » يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَي عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَتَدَاعَي الأَكَلَةُ عَلَي قَصْعَتِهَا، قُلْنَا : مِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : لا، أَنْتُم يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْزَعُ اللَّهُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ، قِيلَ : وَمَا الْوَهَنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ». وكان دعائي الدائم يارب ارحمنا برحمتك من أن نكون غثاءً وأبعد عنا حب الدنيا وفتنها ما ظهر منها وما بطن، يارب أنت أعلم بحال حجاج بيتك الحرام فنعوذ بك من أن نكون نردد مجرد كلمات حفظناها وحركات تعلمناها فيارب إرزقنا الإخلاص في العمل وطهارة في القلب لتكن عبادتنا خالصة لوجهك الكريم. وتعجبت أيضا كيف لهذا المكان الطاهر الذي يضج بالحجيج أن يأتي عليه يوم ويهجره الحجيج في آخر الزمان.وزالت الدهشة عندما تذكرت أننا نعيش بالفعل سنوات الهجر للمسجد الأقصي أولي القبلتين وثالث الحرمين الشريفين الذي أمرنا الرسول () أن تشد إليه الرحال بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي. وكان الناس قديما يتمون حجتهم بزيارة المسجد الأقصي والصلاة فيه. ولكننا هجرناه طواعية كما أراد الاحتلال. فلم الإندهاش ولم التعجب فغدا سيأتي جيل يهجر مسجد الله الحرام في نهاية الزمان ومنهم سيخرج الحبشي هادم الكعبة بعد أن يموت كل من يذكر الله من علي ظهر الأرض كما أخبرنا الرسول () في حديثه عن علامات الساعة. وأما عن ماء زمزم ووقفة عرفات ومهنتي الصحفية في الحج فإلي يوميات قادمة بإذن الله.