"تبدَّت لي الكعبة قائمةً وسط المسجد فشُدَّ إليها بصري وطفر قلبي ولم يجد عنها منصرفًا، ولقد شعرت لمرآها بهزة تملأ كل وجودي وتحركت قدماي نحوها وكلي الخشوع والرهبة، وقلت: اللهم أنت السلام ومنك السلام، وارتسمت صورة البيت أمام بصيرتي منذ أقام إبراهيم وإسماعيل قواعدَه مثابة للناس وأمنًا". هكذا يصف الأديب محمد حسين هيكل مشاعره حين رأى الكعبة للمرة الأولى، في كتابه "في منزل الوحي" وهي رحلة حج قام بها المؤلف إلى بلاد الوحي ومنزله، استوحى فيها مواقف محمد بن عبدالله صل الله عليه وسلم، وتمثل هذا الهادي الكريم والمسلمين من حوله، ووقف عند آثاره يحدثها وتحدثه. والكتاب هو ضمن كتب رحلات الحجّ.
أفاض هيكل في تصوير مشاعره وهو يقوم بأداء مناسك الحج، ولم يترك موقفًا من مواقف الحج إلا تطرَّق إليه، وربطه بتاريخه القديم وما كان يفعلُه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه المواقف وهو يؤدي فريضة الحج، وفي مخيلتِه صورة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجِّه ودعائه.
يقول المؤلف في البداية أن جرمانوس أحد المستشرقين المحدثين، وأحد القلائل الذين زاروا الأماكن المقدسة في مكةوالمدينة كان له فضل في حثه على السفر إلى الحج، حيث سافر جرمانوس عام 1935م من مصر إلى جدة، وكتب مذكرات رحلته إلى الأماكن المقدسة باللغة المجرية تحت عنوان "الله أكبر"، وترجم هذا الكتاب إلى لغات عدة. وقد ألح عليه حب الرسول لمعاودة الحج للمرة الثانية فعاد إلى الأراضي المقدسة عام 1939م.
يقول محمد حسين هيكل في مقدمة كتابه: "وجعلت أدير شارة الراديو على محطات مختلفة حتى كانت "بودابست"، وكانت أول عبارة تنفست عنها الإذاعة قول المحاضر –يقصد جرمانوس- : "وسط هذه الجموع الحاشدة حول الكعبة جعلت أسمع: الله أكبر، الله أكبر: فلما انتهيت من الطواف ذهبت أسعى بين ربوتي الصفا والمروة".
فقلت في نفسي: "أويكون هذا الأستاذ الأوربي الحديث العهد بالإسلام أصدق عزماً مني في زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة؟". كما استجاب الله تعالى لدعاء جرمانوس فأسلمت زوجته على يد الأستاذ الأديب أحمد عبد الغفور عطار.
وقد كتب جرمانوس في صحف أوربا عن الإسلام فقال في بعضها: "إني وأنا الرجل الأوربي الذي لم يجد في بيته إلا عبادة الذهب والقوة والسطوة الميكانيكية تأثرت أعمق التأثر ببساطة الإسلام وعظمة سيطرته على نفوس معتنقيه .. إن الشرق الإسلامي سيبقى مستوليا على لبي بروحانيته ومثله العالية، والإسلام حافظ دائماً على مبادئه الداعية إلى الحرية والإخاء والمساواة بين أبناء الجنس البشري".
ذكر هيكل أنه في أثناء تأليفِه لكتابه حياة محمد صلى الله عليه وسلم استشعر بحاجته إلى الذهاب إلى بلاد الحجاز لاستكمال بعض البحوث الخاصة بالسيرة النبوية، لكن هذه الأمنية تأخَّرت بضع سنين حتى عزم الذهاب إلى أداء فريضة الحج في سنة 1355ه / 1936م، بعد تردُّد أمسك به، وخوف اعتراه من طبيعة الحياة التي كانت عليها بلاد الحرمين آنذاك، ومن مشقة في التنقل بين أرجائها، لكنَّه حسم أمره في نهاية الأمر، واستحضرت نفسه مشهد المسلمين وهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجّة الوداع، فامتلأت نفسه رهبًا وقلبه إيمانًا، واشتدّ به الشوق إلى أداء الفريضة. وصف الكعبة يمتلئ كتاب هيكل ببحوثه التاريخية عن بناء الكعبة وتاريخها القديم وعمارتها، وعن آثار مكة ومساجدها القديمة وقبورها، مثل غار حراء وغار ثور ومقبرة المعلاة ومسجد الراية ومسجد الجن، ودار الأرقم بن أبي الأرقم، وكذلك حديثه عن آثار المدينةالمنورة وبخاصة المسجد النبوي وتطوره المعماري عبر العصور، واهتمام المسلمين بعمارتِه وتجديدِه، ودار عثمان بن عثمان، ودار أبي أيوب الأنصاري، ومسجد الغمامة ومسجد السقيا، ومسجد الإجابة، ومقابر البقيع وقبر حمزة، وغيرها.
يصف هيكل الكعبة ويقول: أنها بهو رفيع خال من كل زينة أو زخرف. وسقفها يعتمد اليوم على ثلاثة عمد من الخشب الضارب لونه إلى حمرة تشوبها صفرة. ويرجع العهد بهذه العمد إلى أجيال طويلة خلت. فعبد الله بن الزبير هو الذي وضعها حين جدد بناء الكعبة. ولم يصب هذه العمد فساد على طول العهد بها إلا ما كان منذ خمسين سنة أو نحوها حين تآكل أسفلها فشدت بدوائر من خشب طوقت بها وسمرت عليها. وتعلو هذه الدوائر عن أرض الكعبة ما يزيد قليلاً على ثلاث أذرع. وأوضها مفروشة برخام أبيض عادي، قصد منه إلى المتانة ولم يقصد إلى الزخرف.
يواصل: غطيت جدران الكعبة بستر من حرير قيل إنه كان أحمر وردياً في زمانه، ثم أحالته السنون إلى ما يشبه الرمادي الضارب إلى الخضرة. ولقد أنبأني السادن أن هذا الستر، الذي شد إلى جدرانها في عهد الخليفة العثماني عبدالعزيز بن آل سعود فأمر بصنع غيره ليستبدل به.
وهذا الستار القديم قد زركش بالنسيج الأبيض طرزت عليه عبارات وألفاظ توائم روح العصر الإسلامي الذي كتبت فيه من حيث دلالتها. فمنها "سبحان الله وبحمده.سبحان الله العظيم". و"يا حنان يا سلطان. يا منان يا سبحان". وهذه العبارات الأخيرة مكتوبة داخل دوائر من النسيج التي طرزت به.
وفيما روى عن بناء آدم الكعبة روعة شعرية كروعة بناء الملائكة إياها. فقد قيل: إن آدم سأل ربه بعد أن هبط وزوجه من الجنة. يارب مالي لا أسمع أصوات الملائكة ولا أحسهم؟ قال: بخطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابن لي بيتاً فطف به واذكرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي. فأقبل آدم يتخطى الأرض حتى بلغ مكة. هنالك ضرب جبريل عليه السلام بجناحه في الأرض السفلى فقذفت فيه الملائكة من الصخر ما لا يطيق حمّل الصخرة ثلاثون رجلاً. وعلى هذا الأساس بنى آدم البيت متخذاً أحجاره من خمسة أجبال: من لبنان، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، وحراء.
يقول هيكل: حتى إذا بلغت الكعبة اندمجت في المسنين الذين يطوفون بها وهم مثلي في ملابس الإحرام وأعلنتُ نية الطواف ببيت الله المكرم سبعة أشواط طواف العمرة.. واندفعت أستغفر وأطلب إلى الله الهداية، وأتممتُ الأشواط السبعة وأنا أكبِّر الله وأحمده وأستغفره، وأنا مأخوذ بجلال هذا البيت العتيق ممتلئ النفس خشوعًا، يفيض قلبي إيمانا بالله الذي جمع في هذه البقعة الضيقة من الأرض كل هذا الجلال وكل هذه المهابة.
المسلمون الأوائل
في رحلته للحج، تذكر هيكل المسلمون الأوائل الذين حجوا مع النبي صل الله عليه وسلم، فيقول:ظلوا في طريقهم إلى مكة اثنى عشر يوماً، إذا جنهم الليل نزلوا، فإذا أضاء لهم الصبح قاموا متوجهين بقلوبهم إلى الله مصلين ملبين ناسين عرض الدنيا مؤمنين بأن لا فضل لأحدهم على صاحبه إلا بالتقوى. فلما بلغوا مكة دخلوا المسجد الحرام يؤمهم محمد صل الله عليه وسلم وطافوا بالبيت العتيق، ثم سعوا بين الصفا والمروة.
طافوا جميعاً معاً وسعوا جميعاً معاً، وهم جميعاً في إمامة محمد تسري إليهم من قدس روحه نفحات روحية لم يعرفوا ولم يعرف أحد قبلهم ما يشابهها سموا وقوة، وآن لهم أن يرتقوا إلى عرفات ليتموا حجهم، فاتبعوا النبي إلى منى يوم التروية ثم ارتقوا الجبل معه. وأقاموا فوق عرفات في مساواة الإحرام يهللون ويكبرون ويلبون حتى مالت الشمس إلى المغيب. إذ ذاك استمعوا إلى خطاب النبي ثم أفاضوا إلى المشعر الحرام فذكروا الله عنده، وهبطوا منى فأتموا المناسك وعادوا وقد طهر الحج قلوبهم إلى حياة جديدة بقلوب أكثر طهراً، ونفوس أجابت داعي الحق وعاهدت الله أن تُحيبه كلما دعاها.
بعد أن انتهى هيكل من أداء فريضة الحج توجَّه إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي الشريف، والصلاة في الروضة الشريفة، والوقوف على قبْر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سجل عواطفه وأشواقه منذ أن نزل المدينة حتى غادرها، فصور مشاعره حين وقعت عيناه لأول مرة على القبة الخضراء، وحين خطا أولى خطواته إلى المسجد النبوي، وحين بلغ الحجرة الشريفة ووقف قبال قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- شاخصًا ببصره مأخوذ الذهن عن التفكير من رهبة المكان وجلال الموقف.
وفي غمرةِ زيارته للمسجد النبوي تفجر على لسانه مناجاة صادقة أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم، منها: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنك رسول الله الواحد الأحد حقًّا وصدقًا، وأنه بعثَكَ للناس كافة بالهدى ودين الحق، هديتهم بأمره ألا يعبدوا إلا إياه مخلصين له الدين حنفاء... أشهد أنك رسول الله بعثك بالهدى ودين الحق، علمتنا بأمره ووحيه أن عبادة الله ليست خضوعًا، إنما هي إسلام لله عن إيمان صادق ابتغاءَ رضاه عن صالح ما نعمل، والتماسًا لعفوه عما نضلُّ فيه السبيل.
قبر خديجة
يحكي المؤلف زيارته لقبر السيدة خديجة زوجة النبي صل الله عليه وسلم وكيف استوقفه حارسها وأعطاه قطعة من القاشاني الأخضر الجميل اللون زينت أطرافها بنقش فني دقيق وقال: أن هذه قطعة من جدار القبة التي كانت على قبر السيدة خديجة، فقد كان على قبر السيدة خديجة قبة شاهقة بارعة الجمال، يذكر المؤرخون أنها بنيت في السنة الخمسين والتسعمائة من الهجرة أثناء ولاية داود باشا مصر، وأن الذي بناها أمير دفاتر هذا الوالي الأمير الشهيد محمد بن سليمان الجركسي. وقد أزال الوهابيون هذه القبة فيما أزالوا من القباب أول دخولهم مكة إرضاء لهوى إيمانهم، ثم بقيت صورتها الشمسية تشهد بأنها كانت آية بارعة الجمال في فن العمارة براعة تصد من يفهم هذا الفن عن أن يصيبها بسوء.
وكانت إلى جوارها قباب لجدّي النبي عبدالمناف وعبد المطلب ولعمه أبي طالب. بذلك كانت هذه المقبرة بدعاً يعشقه من يحبون جمال الفن، وكان الناس يزورونها إجلالاً لهذه القباب وتبركاً بذكرى ساكنيها. أما اليوم فلا يفكر أحد في القباب وقد أزيلت، ولا يزور أحد القبور وقد حيل بين الناس وبينها بهذا الجدار الذي يصدهم عنها.
في ختام كتابه يقول هيكل: رأيت نور الله ماثلاً في كل دقيق وجليل من خلقه. ورأيت سنته في الكون تتبدى لكل من أخلص إلى الحق وجهه ثابتة لا تبديل لها. رأيت كل هذا رأي العين.
وأيقنت أن العلم بهذا كله هو الحياة الراضية المرضية نعم. كذب الظن من يحسبون التكاثر بالمال والجاه والسلطان شيئاً في وجودنا، إنما الشئ الذي هو كل شئ في الحياة فذلك إيماننا بالحق عن بينة. وسمونا بهذا الإيمان فوق منافع الحياة جميعاً، وهل يعدل كل ما في الكون من مال وجاه وسلطان قبساً من نور الحق وضياء الهدى!؟.