تحتفل مكتبة الإسكندرية السبت القادم، وتحت رعاية المركز القومي للترجمة، ب "يوم المترجم"? وهي احتفالية سنوية جديدة تهدف إلي إلقاء الضوء علي جهود المترجمين المصريين كجسور للتواصل والتلاقي بين اللغات والثقافات والحضارات. ويشارك في الاحتفالية خمس مراكز ثقافية أجنبية..حيث ستقدم نصوص من خمس بلدان هي: إيطاليا، إسبانيا، المجر، البرتغال وبولندا. هنا ننشر النصوص المترجمة التي ستقرأ في الاحتفالية. كنت أفكر وأنا أمر تحت المنازل المطلة علي الميدان في شارع زكريكوليس كيف يمكن العيش في منزل مثل هذه المنازل، نوافذها دائماً مغلقة وإلا ستشعر كما لو كانت السيارات داخل المنزل، ولا يمكن نشر الغسيل لأنه سيصبح أسود اللون علي الفور، والشرفات قد شيدت لهذه المنازل كي تطل مباشرة علي ميدان شارع كريكولي، لكني أعتقد أن المعتوه فقط هو من يفكر في عمل شرفة في مثل هذا المكان، ومع هذا ففي يوم من الأيام، لا أتذكر بالضبط متي، بينما كنت أسير علي قدمي بالضبط في نفس المكان الذي أمر فيه الآن، كان هناك رجل يقف في إحدي الشرفات. كانت الساعة حينها حوالي الثامنة صباحاً وحركة المرور كانت كعادتها رهيبة: سيارات ومركبات نقل إلي آخره، ولا تري أي مخلوق، كان يوماً عادياً مثل غيره حيث التكدس المروري المعتاد في ساعة الذروة، ولكن ها هو رجل يخرج إلي الشرفة في الطابق الأول، وسط دهشتي الشديدة، يرتدي روب حمام ويمسك بفنجان قهوة في يده اليمني وسيجارة في اليد اليسري. كنت أسير متوجهاً إلي زفيتشينساس أعني نحو وسط المدينة، وإذا بي وأنا أرفع رأسي أري هذا المشهد الفريد، فلم أكن أصدق ما أري. قلت لنفسي: لا لا يمكن أن يخرج أحد هكذا في شرفة مثل هذه وفي تلك الساعة، بروب الحمام والقهوة في يد والسيجارة في اليد الأخري، لكن الرجل كان بالفعل هناك، أمامي تماماً بروبه الأصفر ويستند علي سور الشرفة وينظر إلي أسفل، كان يرتشف قهوته ويدخن سيجارته. ظللت واقفاً أنظر إليه حتي انتهي من الاثنين، وأخذ يتمغط ويشد جسده ثم عاد إلي الداخل. لو حكي لي أحد هذا ما صدقته أبداً، لكن علي أية حال كانت هذه هي المرة الوحيدة التي رأيت فيها أحداً يقف في إحدي تلك الشرفات، كما أن الناس تتأقلم مع كل شيء، هذا شيء لا يُصدق لكنه الواقع. الناس تتأقلم مع العيش في أماكن لا يمكن العيش فيها، كما تتأقلم كذلك مع تنفس هواء غير صالح للتنفس، وعلي أكل طعام غير صالح للأكل. هذه الأحياء الجديدة، التي يطلق عليها أحياء الإسكان الشعبي التي يستغرق إنشاؤها أحياناً عدة سنوات لكنها عندما تنتهي تبدو كما لو أنها ظهرت لنا فجأة من لا شيء بين عشية وضحاها، هكذا دون أي إنذار مسبق، هي غالبا إن لم يكن دائماً، أحياء بائسة وكئيبة. تظهر هكذا بسرعة مثل الفطريات، كما يقال، لكنها تظل فطريات فقط في المدة التي تستغرقها المفاجأة، وبمجرد انتهاء لحظة المفاجأة الأولي هذه، تصبح تلك البنايات والأحياء بكاملها، التي ظهرت فجأة مثل الفطريات، تصبح فوراً خلايا نحل، لكنها بالطبع خلايا نحل فقط من حيث الكثافة السكانية، أخذت من خلايا النحل، فقط وظيفتها كحاويات تؤوي كائنات حية، أما الخاصية الهندسية المنطقية لخلية النحل فهي أبعد ماتكون عنها ولا تقارن بها ولا حتي تُذكر بجانب تلك الممارسات المعمارية المدنية التي تتم علي حساب مصلحة الناس. كنت أفكر، مع هذا، يتعود الناس ويعيشون في هذه البنايات لسنوات بالرغم من قبحها وبالرغم من أنها أحياناً لا تؤذي فقط أعيننا وتخل بتوازن الحس الجمالي لدينا، لكنها في الواقع بُنيت بطريقة سيئة وغير مناسبة للسكني، فلا يهم إن كانت الجدران رطبة بطريقة غير محتملة، ولا يهم إن كانت المياه تتسرب من جميع الأنحاء، ولا يهم إن كانت الحوائط الفاصلة من الكرتون، أو إن كانت الحمامات بلا نوافذ، أو إن كانت البالوعات لا تُصرف جيداً، حيث في كل مرة يهطل فيها المطر بغزارة أكثر، لا تستطيع البالوعات تصريف المياه المتدفقة فترتد مياه الصرف إلي حيث أتت، ولا يهم إن كانت تلك الشقق باردة جداً في الشتاء لدرجة تجعل العظام تتجمد، وساخنة صيفاً لدرجة لا تُحتمل. وفي النهاية كل هذا لا يساوي قلامة ظفر. كنت أفكر هذا الصباح أثناء سيري باتجاه وسط مدينة زفيتشينساس يعتاد الناس كل شيء. نحن نعتاد أي شيء لأننا أكثر طواعية وأكثر استعداداً للتشوه مما نحن علي استعداد للتسليم به. وأتساءل، هل هناك شيء لا يمكننا تحمله؟ وأجيب عن نفسي بلا، ليس هناك شيء لا نستطيع تحمله. هل هناك شيء لا نستطيع تعوده؟ لا، ليس هناك شيء لا نستطيع تعوده، وأقول لنفسي أثناء سيري، نحن نعتاد كل شيء أو تقريباً كل شيء، وكل هذا الذي نراه، يعني أننا نستطيع أن نراه، وكل هذا الذي نسمعه نستطيع سماعه، وهذا الذي نفعله، من الواضح جيداً أننا نستطيع عمله، وكل هذا الذي نتجرعه يومياً من الصحف ومن الراديو ومن التلفاز، كل الأخبار التي نلتهمها مثل الطعام الجاهز المخلوط، عدة مرات يومياً، يعني أننا نستطيع هضمها. ما يُكتب يومياً في صحفنا هو شيء مقزز ولا يمكن أن يكون إلا مقززاً، وما يقال كل لحظة في الإذاعة - يقال ويعرض علي التلفاز- هو شيء رهيب وغير أخلاقي ويحط من الروح المعنوية ومحبط، ويصل غالباً إلي أقصي درجات الرعب واللامبالاة والإحباط. وأقول لنفسي أثناء سيري، العالم علي وشك الكارثة، وأقول بعدها بلحظة، لا، العالم ليس علي وشك الكارثة لكنه ينقل علي الهواء كارثته، التي تحدث بالفعل، وهي كارثية تماماً. كنت أفكر، يحدث شيء ما رهيب ومخيف بطريقة لا يمكن استيعابها في كل لحظة في العالم وبطريقة تفوق تصوري دائماً، شيء أعتقد أني - يجب أن أقول هذا - غير مهيأ له إطلاقاً. يقال إن الواقع يفوق الخيال، لكن الواقع أن خيالنا محدود بحيث لا يسمح لنا بالتعبير بطريقة تجريدية رياضية عن الواقع. وأقول لنفسي أثناء سيري، الواقع الافتراضي هو دائماً مسودة هزلية مقارنة بالواقع الحقيقي؛ وهذا يرجع إلي محدودية عقولنا وإلي عدم قدرتنا الفطرية علي إدراك الواقع الذي هو في الحقيقة ليس إلا فكرة أو تجريداً نحن بحاجة إليه والذي باسمه تنفلت عن طريق القول كل الحماقات المنحطة. ڤيتاليانو تريڤيزان ولد ڤيتاليانو تريڤيزان عام 1960. عمل وهو شاب في مجال البناء والأثاث، ورغم ميله للأعمال اليدوية، إلا أنه كان مولعا في الأساس بالكتابة، نشر روايته الأولي "ثلاثية بدون بيانو" عام 1998، وفي سنة 2002 صدرت رواية "الخمس عشرة ألف خطوة" التي نالت استحسان النقاد، وحصلت علي جائزة "لو سترانيرو" وجائزة "كامبييللو فرنسا" عام 2008، وكانت بذلك نقطة انطلاقه نحو النجاح والشهرة. شارك ڤيتاليانو تريڤيزان بالتمثيل وكتابة سيناريو العديد من الأفلام الإيطالية من عام 2003 حتي 2009، وقد مثلت هذه الأفلام السينما الإيطالية في عدد من المهرجانات الدولية. من أعماله الروائية: "عالم رائع" عام 2003"الجسر - انهيار" عام 2008. بالاضافة إلي عدة مجموعات قصصية قصيرة. كتب أيضا العديد من النصوص المسرحية، وعُرض الكثير منها علي خشبة المسرح ومن بينها: "العمل يجعلنا أحراراً" عام 2005"اهتزازات" عام 2006"3 أعمال درامية قصيرة" عام 2008"منولوجان" عام 2009 "ليلة في تونس" عام 2011. وكتابه رحلة داخل عقل تحاصره الهواجس، لكنه عقل يشبهنا. توماس بطل الرواية يدون أفكاره في مفكرة صغيرة لا تفارقه، ويحلم وهو يجوب شوارع مدينته بغابات رائعة. يعد خطواته وهو يسير, ويسحبنا معه بقوة الي عالم من الوقائع والشخوص والمصائر والأماكن المهجورة، ليكشف لنا تلك الحياة الخفية الكامنة خلف ضجيج مدينته المعاصرة.