رغم أن الميديا اختصرت الدكتورة والأديبة ذات العطاء المكثف والمتنوع في معركتها الشهيرة في عقد السبعينيات حول "هضبة الأهرام"، وفي حينها تصدّت الدكتورة نعمات ، ليس بوصفها مفكرة مرموقة ، أو أديبة معروفة ،أو باحثة أثبتت جدارتها في كل ما خاضته من الغوص بعيدا في تراث مصر الثقافي والفكري والطبيعي ، ولكن بصفتها مواطنة مصرية ذات حقوق وسيادة ومعرفة وتاريخ وثقافة وعلم ووطنية لا يعرفها من خانوا ومن باعوا ومن وهنت عزائمهم أمام المال الحرام ، والذي أرادوا أن ينتزعوه في غفلة كارثية امتدت ومازالت ممتدة حتي الآن، وقفت نعمات علي رأس مجموعة من المثقفين والكتاب والقانونيين أمام كل طواغيت رأس المال المسنودين بالسلطة السياسية ، وهي الأديبة والمثقفة والناقدة الأدبية ، ومن المفترض أنها تتقوقع داخل تلك الصفة الأدبية والأكاديمية ، ولكنها آثرت أن تمارس دورها الطبيعي ، ذلك الدور الذي تناساه المثقفون في حقب عديدة ، فصمتوا تماما ، أو ساندوا السلطان متعدد الوجوه ، وما كان من السلطة السياسية في ذلك الوقت ، إلا أن تترصد تلك القامة الشامخة ، وتضرب أنواعا من التجهيل والاستبعاد والتهميش ، رغم أنها لم تسع إلي تصدر أي مشهد دون حق يذكر. إذن فالمسألة التي تم اختصارها فيها ، وهي تصديها للصوص التاريخ والآثار والمآثر الوطنية ،كانت مسألة محدودة جدا في تاريخها المديد ، وكانت تلك المهمة نتيجة استغراق المواطنة نعمات فؤاد في التعرف علي تضاريس ذلك الوطن الثقافية والطبيعية والدينية والأدبية والفنية عبر عقود عديدة ، وخرجت بنتائج مذهلة ، ربما كانت غائبة عن الحياة المصرية ، وفي تلك المجالات كلها ، أصدرت عدة كتب مهمة في وقت مبكر جدا ، منها كتاباتها عن ام كلثوم وأحمد رامي وابراهيم عبد القادر المازني ومصطفي صادق الرافعي ، والنيل في الأدب، والقاهرة في حياتي ، والجمال والحرية والشخصية الانسانية في أدب العقاد ، وغير ذلك من كتابات تصل إلي حد الاكتشافات. وجدير بالذكر أن الراحلة الكبيرة ،عندما كانت تتصدر لبحث ما في أدب قامة فكرية أو أدبية ، تنطلق من أفق انساني واسع وعام ومعرفي شامل ، ثم تثنّي ذلك الأفق الانساني بمحددات وطنية ومصرية خاصة ، وفي بحث لها نشر في العدد الرابع من مجلة "الرسالة الجديدة" عام 1954 ، وكان عنوان البحث :"الانسانية في الأدب العربي المعاصر"، آثرت الباحثة ، والتي كانت توقّع اسمها بصفة "ماجستير في الأدب"، قبل أن تتطرق للأدب العربي ، أن تتجول في حديقة الأدب العالمي ، وكذلك قبل أن تتحدث عن الأدب المعاصر، راحت تطرق أبواب الأدب القديم ، فاستهلت دراستها قائلة :"منذ عرف الانسان الكلمة المرنمة التي انتظمت مع الزمن قصائد سمّاها شعرا والكلمة البليغة التي تساوقت مع حياته فمضت تصورها تصويرا سمّاه نثرا فنيا ،والأدب مستودع سره ،ومجلي روحه يبثه مكنون نفسه وخفقات قلبه وومضات وحيه ، وإشراقات إلهامه ،والأدب للانسان بمثابة مرآة صافية يري في صقالها نفسه الظاهرة والباطنة لا يضخّم المحاسن رياء ،ولا يحجب العيوب زيوف ، بل الحقيقة في واقعها سافرة سفور الشمس ، واضحة وضوح الحق ، ثابته ثبات اليقين". ومن يتتبع كتابات د نعمات ، سيلاحظ أن إدارة البحث عندها ، لا بد أن تأتي مفعمة بنفحات شعرية أو عاطفية أو حميمية ، والبحث الأدبي أو الفكري أو الثقافي_في عمومه_ عندها ، لا يصدر عن جمود أكاديمي جامد وجاف ومعقد ، ولكنه ينطلق من روح سابحة في الجمال المطلق والانساني والوطني ، إذا صحّ الجمع لتلك العناصر. وفي ذلك البحث المشار إليه سابقا ، تقول في لغة أخّاذة :"فالأدب كمعرض الرسام يري فيه المشاهد لوحات ناطقة للانسان ، الانسان حين يتألم وحين يتأسي ،وحين يصادق وحين يصانع وحين يجاري وحين يداري ، الانسان في زهو النصر والانسان في كمد الهزيمة ، والانسان في إشراق الأمل ، والانسان في قتام البؤس ، والانسان في لذة العمل ،والانسان حين البأس ، والانسان في محراب الصلاة، والانسان في نشوة الكأس.."، وتستطرد نعمات في اكتشاف المتناقضات والمترادفات الانسانية العامة والخاصة والمتنوعة والمكثفة ، والتي يصل بحثها في ذلك إلي مستوي النص الإبداعي ، وتظلّ تستطرد في كل ذلك بمثابة مقدمة شبه شعرية أو سردية بديعة، ثم تصل إلي مبتغاها البحثي لتتضح الرؤية مامنا واضحة وناصعة وجلية ، وتكون تلك المقدمة قد أنفدت سهمها العاطفي قبل القارئ. هذا مايحدث لي ، وربما لغيري، لا أستطيع أن أنجو من التأثير العاطفي لكتابات د نعمات المتعددة والمتنوعة ، رغم أنني قارئ محترف، ومن المفترض أن تكون روحي قد تدرّبت علي كل الأنواع الكتابية ، ولكنني في كلّ مرة أقرأ فيها نعمات فؤاد ، أجدني منسابا معها في اكتشافاتها وجزرها السحرية ، ففي بحث طويل عنوانه "المجتمع في الادب الحديث وفي الأدب الشعبي من خلال بيرم التونسي"، تغوص بنا نعمات في قلب التاريخ الأدبي والثقافي ، وتقلّب ذلك التاريخ الثقافي والإبداعي علي كافة وجوهه الشعرية والروائية والسردية عموما ، ورغم أن القارئ المحترف ، والباحث ، يدرك كثيرا عن تلك الإشكالية ، إلا أنه يجد نفسه مأخوذا باكتشافات الكاتبة الكبيرة ، عندما تتعرض لكتابات المويلحي وطه حسين والعقاد والمازني وتوفيق الحكيم ، إنها تنشئ مقدمة عتيدة بالفعل ، قبل أن تصيب مركز البحث ، وهو اكتشاف "المجتمع المصري" في الأدب الحديث ، ذلك المجتمع المتخيل ، أو المجتمع اليوتوبي أو الواقعي أو الرومانسي، ونتبين أنها تنسج رؤيتها الكليّة في منظومة سلسة وصافية ، وتقارن كل ذلك ،بما كتبه الأجانب ، وعلي رأسهم المستشرق الانجليزي "ادوار وليم لين"، الذي كتب كتابه المهم "المصريون المحدثون وتقاليدهم"، وتقول بأن المجتمع المصري الذي جاء في كتابات مصريين، كان أصدق وأحنّ وأوضح ، رغم رومانسية هذا ، وواقعية ذاك ، وصوفية تلك ، والتشنجات العصابية عند البعض ، ولكن كل هؤلاء كانوا ينضحون مصرية ، تلك المصرية المتنوعة الألوان والأشكال والمفاهيم والعناصر ، تلك المصرية التي تتجلي في "أيام" طه حسين، وهي بالمناسبة تعدّ كتاب "الأيام" من أهم وأجمل ماكتب طه حسين ، وكذلك في "سارة" العقاد ، وكتابه الآخر "تلك الشجرة"، وفي كتاب "يوميات نائب في الأرياف"، وتري أن الحكيم كان قد قفز قفزة عالمية في ذلك الكتاب السيري ، ورغم أنه يتحدث عن أشكال التخلف التي يعجّ بها الريف المصري ، إلا أنه لا ينطلق إلا من ذلك الحب الوطني الجارف ، وتشيد _نعمات_ بمستوي وطريقة واستراتيجة الكتابة في ذلك النص ، وهي تقول بأن الحكيم قد وصل إلي ذري تعبيرية فائقة في ذلك الكتاب ، فهو لم يسترسل طويلا في وصف التخلف في الريف المصري ، ولكنه كان يرسل بعض المشاهد القصيرة التي تختصر تلك المطولات التي كنا نقرأها في كتابات بعض السابقين له ، مثل المويلحي وآخرين. أنشأت نعمات تلك المقدمة قبل أن تصل بنا إلي بيرم التونسي ، ولم يكن ذلك البحث إلا قسما من سلسلة أبحاث نشرت تباعا في مجلة الهلال عام 1967، وكان ذلك قبل هزيمة يونيو ، وكأنها كانت تشعر بأننا مقبلون علي كارثة ، فراحت تبحث في أضابير وأزقة الحياة الإبداعية والثقافية المصرية ، لاكتشاف هويتنا التائهة ، وربما الضائعة ، أو الحائرة ، أو المنكوبة ، لأننا كنا في تيه العروبة متعددة الوجوه من جانب، والمصرية المحصورة في عصور محدودة من جانب آخر ، وكان فريق ثالث يريد أن يعود بمصر إلي العصور الإسلامية التي لم تستطع أن تعي وتطبق روح الإسلام ، ولكنها عصور أفرطت في تطبيق قانون الحذف والسحل والتنكيل ، أي أن مصر كانت في ذلك الوقت ممزقة بين فرقاء عديدين ، وكانت أبحاث نعمات فؤاد العديدة والعميقة خير مرشد _علي الأقل_ للطريق نحو معرفة هويتنا الأصيلة، وكان بيرم التونسي خير من نجد فيه تلك الهوية ، وفي ذلك الشأن استعرضت أشعار بيرم التي تنضح بكل ماهو انساني عام ، ومصري وطني كبير. وتلك الخصوصية التي كانت تتمتع بها المواطنة نعمات فؤاد ، جعلتها قادرة علي التعامل مع كافة الأطياف الوطنية ، وتتحاور معها ، وتبدع في اكتشافها ، فتكتب عن العقاد ، وتبدع في إرشادنا إلي مواطن جمال خاص عند العقاد ، رغم جهامته وجبروته ، وكذلك تحاور المواطن المصري الأول "أحمد لطفي السيد"، وتكتب مقالا عنه ، علي هيئة حوار معه ، وكان المقال عنوانه "لطفي السيد يجلس علي الأرض بالردنجوت"، إذ ذهبت إليه ذات ميعاد معه ، فوجدته ينتظرها ، وأخبرها المحيطون به وببيته وبخلوته وقالوا لها كما تكتب_: الباشا عاوز يشوفك خالص ..الباشا قال إنك ستحضرين اليوم.." ، ودخلت عليه في غرفته الخاصة ، وعلي سريره ، واكتشفت أنه هو نفسه الذي يجلس في مكتبه ، ويجلس علي منصة المحاضر ، لطفي السيد المهيب والشامخ والخطيب ، وتقول :"إن لطفي السيد يتمتع مع الذكاء بالإشراق واليقظة الواعية ..إن وجهه يظهر من الشال ويشعّ منه هذا كله ، إنه بحق أستاذ الجيل". لم يكن ذلك غزلا ، ولا مديحا ، ولانوعا من التماهي مع شخصية شامخة تحمل تاريخا معقدا من الوطنية الخاصة_إذا صحّ الوصف_، كانت المواطنة نعمات تشتبك انسانيا وفكريا مع المواطن لطفي السيد ، وتسأله أسئلة شبه بديهية وربما بدائية ، من طراز:"ماالذي جذبك إلي الفلسفة ،فقرأت لأرسطو وترجمت عنه كل هذا؟!، ورغم بديهية السؤال وبساطته ، إلا أن انطلاقه من د نعمات ، له معني اكتشافي لتلك الشخصية الوطنية الكبيرة، إنه حوار مثير ، آمل أن يعاد نشره في جريدة أخبار الأدب ، لجدته وجماله. لم تكن علاقة نعمات بالاكتشافات الثقافية والأدبية الوطنية جديدة عليها كما قلنا ذلك من قبل ، فهي حاولت أن تبحث عن تلك الوطنية في كل صورها ، كما عددنا ذلك في كتبها ، ولكن هناك الكتاب البسيط والجميل ، والذي ترجمته منظمة اليونيسكو لتعميمه في العالم ، هو الكتاب الذي وضعت عنوانا له "إلي ابنتي"، وصدر في عقد الخمسينات ، وفي هذا الكتاب تقدم نعمات ، دون افتعال ولا تكلف ولا خطابة حنجورية زائفة دروسا في الوطنية السمحة ،وليست الوطنية المتعصبة ،وتقول نعمات في المقدمة :"جرت العادة أن ينصح الآباء الأبناء ، ولكن الأمهات يكتفين بالأمل المرنم في المهد ، والبث الهامس في الرشاد ، أما أن تكتب الأمهات أحاسيسهن وهي عميقة ، ويصورن مشاعرهن وهي جمة غنية بالألوان ، فذلك منهن قليل .." "..إن أدبنا العربي مثلا فيه عبارات قليلة موجزة من أم لابنتها أو ولدها ولكنها لا تعدو أن تكون إشارات تومئ ولا تحيط ، إنها لا تشبع ذلك الدفق من العواطف في صدر أم ..ومن ثمّ كانت حاجتي ملّحة إلي الكتابة إليك ولك ، فكان هذا الكتاب .." وينقسم الكتاب إلي عدة أقسام تحت عناوين رئيسية "مناجاة أم" ، ثم "من تاريخ وطنك" ، ثمّ "صور من الحياة"، ثم تقدّم وجبة ثقافية من قراءاتها حول شخصيات مثل أحمد عرابي وجمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم ومحمد فريد ، ثم تكتب عن سيدة عظيمة كانت مثالا للمرأة النموذجية ، وهي مدام كوري ، وتختم كتابها بفصل قصير عنوانه "من حديث البنوة"، وفيه تلخّص كل ماسبق في الكتاب ، ولماذا كتبت هذا الكتاب ووجهته إلي ابنتها ، لأن عاطفة البنوة من أكثر العواطف إخلاصا وتجريدا ونبلا ونزاهة ، وتسترشد ضمن مااسترشدت قائلة :"حبس العادل عمر بن الخطاب ، الشاعر الحطيئة لبسطه لسانه في الناس ، ولم يقبل فيه شفاعة فما أن استعطفه ببيتيه " ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لاماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله ياعمر حتي اهتز الأمير الوالد ودمعت عيناه وأطلق أسيره للصبية برّا بهم". هذا الكتاب البسيط والعميق والعاطفي والمكثف ، يصلح في كل زمان ومكان ، لأنه لا يتوقف عند محطة محليّة واحدة ، بل إنه يجوب بالقارئ في سياحة فكرية وروحية وانسانية شاسعة. ولم تكن انسانية المواطنة نعمات فؤاد تتوقف عند نيل مصر ، وهضبتها وأهرامها ، بل ذهبت إلي أبي القاسم الشابي ، والأخطل الصغير ، كما ذهبت لابراهيم ناجي في الوقت نفسه ، إن الانسانية ترتفع عن الأسوار الوطنية التقليدية ، فتكتب عن شاعرية الشابي ، ووطنيته ، وحياته ، ومعني الموت والحياة في شعره ، فتقول :"الشابي..الشابي.. ردد العالم العربي هذا الاسم كثيرا في الفترة الأخيرة قبيل ظهور ديوانه _أغاني الحياة_، (كان ذلك عام 1958)، في اهتمام ظاهر وتقدير ملحوظ .."، وتسترسل المواطنة نعمات في سرود بحثية وعاطفية وأدبية في حياة الشاعر وقصائده ووطنيته ، مستشرفة ذلك الأفق الذي كان يمثله الشاعر الرومانسي ، وابن مدرسة أبوللو المصرية ، وتكتشف كافة الصلات التي تربط بينه وبين معاناته الكبيرة. كذلك تكتب كتابا صغيرا عن الشاعر "الأخطل الصغير" ، وتكتشف من خلاله ذلك البعد العروبي الذي يربطه بكافة الأقطار العربية الأخري ، وتتجول بنا في حديقته الشعرية الغنّاء ، وقد صدر ذلك الكتاب عام 1954 ، وتتوقف أمام قصائده التي يطرح فيها الشاعر همومه الانسانية العديدة ، تلك الهموم التي لا تعرف الحواجز القومية ، بل تشتبك مع الانسان أينما كان ، ووقتما عاش ، فتقدم بذلك قراءة مبكرة ، عن شاعر لم نكن نعرف عنه في ذلك الوقت إلا القليل. أما كتابها عن ناجي ، فهو سياحة ممتعة وشائقة في حياة ناجي الانسان والشاعر والعاشق والمنبهر والمذهول ، وتقول :"لقد كتب الكاتبون قبلي عن الدكتور ابراهيم ناجي الشاعر أو الروح الحساسة الرفافة المعبرة ..واليوم سأضيف إلي رأيهم الجميل فيه ..رأي النقد". ولا تتوقف المواطنة المصرية نعمات أحمد فؤاد عند قصائد ناجي فقط ، بل إنها تغوص في أعماق كتاباته الشعرية والنثرية والسردية ، لتقدّم لنا نوعا من القراءة البانورامية المدهشة. لذلك كله ، لا نستطيع أن نختصر المواطنة العظيمة نعمات فؤاد في محطة واحدة من حياتها ، بل إن كل مراحل حياتها ، عبارة عن حلقات مترابطة ، لتقول لنا :بأننا أمام سيدة ومواطنة تستحق التقدير والاحترام وإعادة نشر كل تراثها ، بعدما استبعدتها قوي الشر القديمة ، فنسيها الناس ، ولم نتذكرها إلا عند رحيلها.