يحتفل المسلمون هذه الأيام بذكري هجرة المصطفي صلي الله عليه وسلم من مكة إلي المدينةالمنورة، وبداية عام هجري جديد، نسأل الله أن يكون أفضل من سابقه، وأن تنعم أمتنا فيه بالخير والأمن والاستقرار، وأن يحقن الله دماء المسلمين التي تسفك أرواحهم التي تزهق علي يد أعداء الله والإنسانية، الذين يرتكبون المذابح اليومية ضد المدنيين العزل والأطفال والنساء الأبرياء في سوريا والعراق وليبيا واليمن وفلسطين وغيرها من ديار الإسلام التي استباحها الأعداء، وسط عجز عربي وإسلامي، وصمت وتواطؤ دولي. ولعل العام المنصرم هو واحد من أسوأ الأعوام التي مرت علي أمتنا في التاريخ الحديث، حيث أصبحت الأمة في وضع من الضعف والتمزق يثير الرثاء والإشفاق حتي طمع فيها الأعداء، وتكالب عليها شذاذ الآفاق، وصدق فيها قول رسولنا صلي الله عليه وسلم: »يوشك أن تتداعي عليكم الأمم، كما تتداعي الأكلة إلي قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال:لا.. بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من أعدائكم منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن.. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت؟ صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم.. فقد تحقق فينا قول الرسول بالحرف الواحد، وأصبحنا »ملطشة» الأمم.. ومصائرنا يقررها غيرنا، تنتهك حرماتنا وتنهب ثرواتنا، وسلبنا نعمة الأمن والاطمئنان ورضا النفس وابتلانا بالغلاء وشدة المؤنة وجور السلاطين.. وما هذا إلا بسبب.. إعراضنا عن هدي الله ورسوله، وانحرافنا عن المنهج الإسلامي الصحيح.. مما يتطلب عودة سريعة إلي الله، وتوبة نصوحاً عن الذنوب والمعاصي والآثام، لعل الله يرحمنا، ويخرج أمتنا مما هي فيه من استضعاف وتشرذم وبلاء وشقاء. أما حادث الهجرة نفسه ففيه من الدروس والعبر ما يحتاج شرحه إلي مجلدات من الكتب والمحاضرات، ومن أهم دروسه حب الوطن والتعلق به والتمسك بالبقاء فيه.. ويتجلي ذلك في كلمات الرسول صلي الله عليه وسلم إلي وطنه مكة، عندما أجبره قومه علي الخروج منها بعد أن تآمروا علي قتله، فجاءه الأمر الإلهي بالهجرة إلي المدينة، فراراًبنفسه ودينه.. فخرج منها تحت جنح الظلام، ويقف مخاطبا هذه البلدة التي نشأ وترعرع فيها قائلا: »والله إنك لأحب بلاد الله إلي الله وأحب البلاد إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» هذا درس حب الوطن والتعلق به. والدرس الثاني هو التخطيط الجيد والمحكم مع التواكل علي الله، حيث رأينا الرسول وصاحبه أبا بكر، يستعين في الرحلة بعبدالله بن أريقط، وكان مشركاً، لأنه كان خبيراً بخبايا الطريق بين مكةوالمدينة، فهنا الخبرة مطلوبة وهي الأساس في سلامة الطريق. أما الدرس الثالث فهو الأمل في نصر الله وتأييده مهما اختلت موازين القوي، ومهما كانت الصعوبات والعقبات.. فالرسول وصاحبه أبو بكر كانا مطاردين يتخفيان من بطش قريش فتارة يدخلان، وتارة يسلكان طريقا غير معروف لقريش ويستخدمان كل وسائل التخفي حتي لا تظفر بهما قريش التي رصدت مائة بعير لمن يأتي بالرسول صلي الله عليه وسلم حيا أو ميتا.. ومع ذلك عندما أدركهما سراقة بن مالك واقترب منهما طمعاً في جائزة قريش. فقال له الرسول: ارجع يا سراقة، فلم يرجع وأراد اللحاق بهما فغاصت أقدام فرسه في الرمال ووقع علي الأرض، فأيقن أن الرسول محفوظ بحفظ الله.. فقال له النبي: ارجع يا سراقة ولك سواري كسري!! انظروا إلي الأمل والثقة في نصر الله.. وتمر الأيام ويفتح الله علي المسلمين بلاد فارس، ويأتي جيش المسلمين بسواري كسري في الغنائم إلي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيمسكهما وينادي علي سراقة فيأتي فيلبسه عمر السوارين تحقيقاً لما أخبر به رسول الله صلي الله عليه وسلم. وهذا درس يعلمنا الثقة واليقين أن الله سينصر هذه الأمة ولو بعد حين. فالمؤمن لا ييأس من رحمة الله، طالما كان علي الحق وأدي ما عليه من مطلوبات دينه وسار علي السراط السوي والمنهج القويم. فجعت مصركلها بحادث غرق مركب رشيد الذي أودي بحياة العشرات من أبنائنا الذين دفعهم الفقر والحاجة إلي ركوب قوارب الموت، طمعا في الحصول علي حياة كريمة، فإذا بهم يلقون بأنفسهم إلي التهلكة، وهنا لابد أن تتحمل الحكومة مسئولية التقصير في السماح لهؤلاء بالهجرة غير الشرعية، والمسئولية عن التأخر في انقاذهم بعد الغرق.. كما أن علي الضحايا أيضا مسئولية إهلاك أنفسهم بركوب قوارب الموت.. والمهم تعويض أسر هؤلاء الضحايا والانتباه لعدم تكرار هذه المأساة مستقبلاً..وعزاؤنا لأهلهم الذين فجعوا في أبنائهم الذين أخطأوا في حق أنفسهم.. ويرحم الله الجميع.