لا شيء في الدنيا يعادل قيمة الوطن، والمقياس الحقيقي لطبع الإنسان يظهر في تعامله مع وطنه، فمن كان من أهل الوفاء والمروءة والنبل فإنه يبذل نفسه فداء لوطنه، وإكراما لأبناء هذا الوطن، ويسعي في رفعته وتعزيز مكانته بين الأمم، ومن كان في المقابل خبيث الطبع صاحب لؤم ونكران وعقوق فإنه يستهين بوطنه، ولا يبالي به. ولقد خرجت علينا في الثمانين عاما الماضية وفي أمواج متباعدة عبر التاريخ تيارات منحرفة وضالة، جحدت كل في هذا الدين من معاني الجمال والوفاء والنبل، وكان من أغرب صور انحرافها أن تقدم للناس تصورا قبيحها يجعل أبناءها يتوهمون أن تدينهم لا يكتمل إلا بمعاداة أوطانهم والكيد لها فكان من أشد ورطات تيارات التطرف أن تهجمت علي مفهوم الوطن، وقدمت تأويلاتها المنحرفة لتشويه ما يأمر به الشرع في هذا المعني، حتي أقدم أبناء تلك التيارات علي سحق أي شعور يتحرك في وجدان الإنسان تجاه وطنه، ويدفعه للغيرة عليه، وسموا ذلك (الولاء والبراء)، وقدموا في سبيل ذلك تنظيرات غريبة، وتأويلات منحرفة، وتجاهلوا الفيض الوارد في منابع الدين ونصوصه الشريفة والتي تسطع وتجهر بتوقير الأوطان، ووجوب حبها، والنهوض بإكرامها، ورفع شأنها، والغيرة علي أبنائها. وقد أحببت هنا أن استعرض صورا ولمحات خاطفة، من شدة حماية الشرع الشريف لمفهوم الوطن، وغيرته عليه، ودفع كل إنسان مؤمن بحق إلي أن يكون باب أمان وحب وتقدير جليل وكبير لوطنه. وإليك هنا لمحة من جلال النبوة وأخلاقها الرفيعة القويمة، فقد روي البخاري وابن حبان والترمذي من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلي الله عليه وسلم- كان إذا قدم من سفرٍ فنظر إلي جُدُرات المدينة أوضع راحلته، وإن كان علي دابة حركها من حبها). ففي هذا الحديث الجليل تصرفٌ نبويٌّ هادٍ، محفوف بالعصمة، ومنزل بالوحي، تحرك به الجنان النبويُّ الشريف، ومن ورائه الإلهام الصادق، والوحي المبين، بحنين القلب إلي الوطن، ونزوع الفؤاد إليه، حتي إن كان صلي الله عليه وسلم ليحرك دابته إلي المدينةالمنورة إذا قفل من سفره، وأبصر جدرانها، من حبها وحنين الجنان الشريف إليها. ولذلك قال الحافظ ابن حجر في: (فتح الباري، في شرح صحيح البخاري): (وفي الحديث دلالة علي فضل المدينة، وعلي مشروعية حب الوطن، والحنين إليه)، ونحوه عند الإمام بدر الدين العيني في كتاب (عمدة القاري، في شرح البخاري). فهذا الحديث الجليل مرشدٌ إلي حظ من السنن النبوية المشرفة، يتجاور مع بقية السنن الشريفة المتعلقة بالعبادات، والمتعلقة بالآداب والأخلاق، والمتعلقة بالحرف والصنائع ووجوه العمران، والمتعلقة بالعلاقات الواسعة بين الأمم، إلي آخر تلك المنظومة القيمية النبوية، الصانعة لشخصية الإنسان المسلم علي حد التمام والكمال. بل جعل العلماء حب الوطن هو علة مشقة السفر مطلقا، حتي لقد ذهب إلي ذلك بعض شراح الحديث في تفسير الحديث الذي رواه أحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه صلي الله عليه وسلم قال: (ثلاثة تستجاب دعوتهم: الوالد لولده، والمسافر، والمظلوم علي ظالمه)، فعلل الشراح سبب استجابة دعاء المسافر هو ما يعانيه من فاقة واضطرار وحزن لمفارقة وطنه وأهله، فقال العلامة المناوي في: (فيض القدير) شارحا للحديث: (لأن السفر مظنة حصول انكسار القلب بطول الغربة عن الأوطان، وتحمل المشاق والانكسار من أعظم أسباب الإجابة). وقال بعض الحكماء: الحنين إلي الوطن من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشد. ولقد فطر الله تعالي الخلائق جميعا علي الميل الفطري الحنيف اللطيف إلي أوطانها، وأودع سبحانه في الفِطَر النقية من سائر الموجودات قرارا وسكونا وانشراحا إلي الوطن، حتي إن المتأمل ليجد ذلك في سائر أجناس الوجود، فالآساد والأشبال تؤوي إلي عرينها، والإبل تحن إلي أعطانها، والنمل يحن إلي قراه، والطيور تهوي وتميل إلي وكناتها، والإنسان مجبول علي مفطور علي شدة الحنين إلي الوطن، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله في: (مثير الغرام الساكن): (والأوطان أبدا محبوبة). وقد لاحظت العرب ذلك، وتفننت في تسمية أوطان الكائنات، حتي قال الحافظ ابن حجر في: (فتح الباري): (والعرب تفرق في الأوطان، فيقولون لمسكن الإنسان: وطن، ولمسكن الإبل: عطن، وللأسد: عرينٌ وغابةٌ، وللظبي: كِنَاسٌ، وللضب: وِجَارٌ، وللطائر: عُشٌّ، وللزنبور: كُورٌ، ولليربوع: نافق، وللنمل: قرية). قلت: ولتلك الأجناس جميعا حنين إلي أوطانها، حتي جمع ربيعة البصري علي سبيل المثال كتابا في: (حنين الإبل إلي الأوطان)، فكيف بالإنسان؟!. فإذا كانت أجناس الوجود كلها من حولنا رغم أنها عجماء لا تفصح ولا تبين، قد تبين من ملاحظة طباعها وأحوالها شدة وفائها وحنينها إلي أوطانها، فالإنسان أولي بذلك منها، لما يمتاز به عنها من الكمالات الإنسانية، التي تجمله محلا لكل خلق كريم، والوفاء والمروءة علي رأس تلك الشمائل، حتي قال أحمد شوقي رحمه الله: وللأوطان في دم كلِّ حُرٍّ يدٌ سَلَفَتْ ودَيْنٌ مُسْتَحَقُّ وأقول علي غرار ذلك: الإنسان لكمال إنسانيته أولي بالوفاء للوطن، والقيام بمحبته وصيانته من سائر تلك الأجناس. إن البر بالأوطان من أكمل صور البر، ومن أرفع معاني الوفاء، ومن أسس الإنسانية ووجباتها، والمعيار الحقيقي للتدين الصحيح لأي إنسان هو أن يضرب المثل الرفيع في إجلال وطنه، والغيرة عليه، وآيات القرآن الكريم حافلة بإشارات ودلالات لا تنحصر في تنمية هذا الشعور، وتأكيده، وتعميقه، وترسيخه، وسلام علي الصادقين.