مديرية الطب البيطري بشمال سيناء تشارك في سوق اليوم الواحد لتوفير السلع بأسعار مخفضة    سعر الدولار أمام الجنيه المصري مساء اليوم الإثنين 21 يوليو 2025    دراسة: الأمريكيون يحولون مدخراتهم إلى أدوات مالية ذات عائد    حماس: اعتقال مدير المستشفيات الميدانية بغزة أثناء عمله إمعان في الاستهداف الإجرامي    بابا الفاتيكان يبحث هاتفيًا مع الرئيس الفلسطينى الوضع فى غزة    بيراميدز يصل إلى ملعب مباراته الودية أمام باندرما سبور التركي    حسن شحاتة يخضع لجراحة عاجلة بعد أزمة صحية مفاجئة    الداخلية تكشف ملابسات مشاجرة عنيفة بالخرطوش في شبرا الخيمة    مشادة زوجية تنتهي بجريمة قتل.. ضبط المتهم بخنق زوجته في شبين القناطر بالقليوبية    من المنصورة إلى الخشبة.. أحمد عبد الجليل يروي رحلته في ندوة تكريمه من القومي للمسرح    أبو.. من مهرجان الجونة إلى "توبة" في فرح شعبى    عماد أبو غازي يتحدث عن السياسات الثقافية في مصر بمعرض مكتبة الإسكندرية للكتاب    ولادة نادرة لطفل شمعي بمستشفى سنورس.. والصحة: إنجاز طبي يعكس كفاءة أطقم الفيوم    صحة الدقهلية توضح حقيقة حالة الطفل المصاب إثر سقوط من علو    وزير الصحة يتابع تجهيز المخزن الاستراتيجي لفرع هيئة الرعاية الصحية بالإسماعيلية    منتخب مصر للسلة يواجه إيران في بطولة بيروت الدولية الودية    محافظ المنوفية يتفقد شركة صيانة الآليات بميت خلف لمتابعة منظومة العمل.. صور    وزير التعليم العالي: "كن مستعدا" مبادرة متكاملة لتأهيل مليون شاب لسوق العمل    لقطات حديثة لسد النهضة تكشف ما تخفيه إثيوبيا، البحيرة ممتلئة والأعمال مستمرة لتغطية التسرب    الجريدة الرسمية تنشر قرارا جديدا لرئيس الوزراء    الأمم المتحدة: يجب وقف إطلاق النار في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية    10 انفصالات هزت الوسط الفني في 2025 (تقرير)    دارين حداد: "المداح نجح بالتعب مش بالكرامات"    برلماني: مصر قطعت الطريق على "حسم" الإخوانية.. والأجهزة الأمنية تسطر نجاحًا جديدًا    لتعويض رحيل محمد إسماعيل ل الزمالك.. زد يطلب التعاقد مع مدافع المحلة    طريقة عمل الشيش طاووق بتتبيلة لا تقاوم    حدث في بنجلاديش .. سقوط 16 قتيلا جراء تحطم طائرة عسكرية سقطت بحرم مدرسة وكلية مايلستون    حزب الجبهة الوطنية يعقد مؤتمرًا حاشدًا بكفر شكر لدعم مرشحه لانتخابات الشيوخ    "الدراسات العليا" بجامعة قناة السويس يفتح باب القبول والتسجيل لبرامجه "دبلوم - ماجستير - دكتوراه"    فريق طبي بمستشفى كفر الشيخ الجامعي ينجح في إنقاذ مريضة تعاني من ورم    وزير الخارجية يؤكد حرص مصر على نقل خبراتها المتراكمة في مكافحة الإرهاب لدعم القدرات النيجيرية    27 شهيدا جراء غارات الاحتلال على قطاع غزة منذ فجر اليوم    ملتقى التفسير بالجامع الأزهر: حديث القرآن الكريم عن الليل والنهار شامل ودقيق لإظهار التعبير والمعنى المراد    ما الضوابط الشرعية لكفالة طفل من دار الأيتام؟.. الإفتاء توضح    المفتي يوضح حكم كيِّ الماشية بالنار لتمييزها    المؤبد لطالب وشقيقه بتهمة قتل سيدة بمركز البلينا فى سوهاج    من هو عدي الدباغ المرشح لخلافة وسام أبو علي في الأهلي؟    الزراعة تطلق منافذ متنقلة لبيع منتجاتها للمواطنين بأسعار مخفضة فى الجيزة    النفط والضرائب والسوق السوداء.. ثلاثية الحوثيين لإدارة اقتصاد الظل    وصول الطفل ياسين مع والدته إلى محكمة جنايات دمنهور مرتديا قناع سبايدر مان    اليوم.. أولى جلسات محاكمة 39 متهما ب«خلية العملة»    حسن الصغير رئيسًا لأكاديمية الأزهر لتدريب الأئمة والدعاة    وزير العمل: التأمين الطبي لعمال «الدليفري» من ضمن أشكال السلامة المهنية    أسامة الجندي يوضح حكم الأفراح في الشرع الشريف    الشركة الوطنية للطباعة تعلن بدء إجراءات الطرح فى البورصة المصرية    سوداني يوجه رسالة شكر للمصريين على متن «قطار العودة»: «لن ننسى وقفتكم معنا» (فيديو)    السيطرة على حريق في مصنع زجاج بشبرا الخيمة    فات الميعاد.. أحمد مجدي: شخصية مسعد تعبتني.. وبحاول أتخلص منه لحد دلوقتي    الجامعة الألمانية تفتتح نموذجاً مصغراً للمتحف المصري الكبير في برلين    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 21-7-2025 في محافظة قنا    زعيم المعارضة الإسرائيلية: نهاجم في الشرق الأوسط حيثما نشاء دون سياسة واضحة    أوكرانيا: مقتل شخص وإصابة اثنين آخرين في أحدث الهجمات الروسية    ناقد رياضي يكشف تطورات صفقة وسام أبو علي بعد الأزمة الأخيرة    أحمد غنيم: المتحف المصري الكبير هدية مصر للعالم    تعرف على حالة الطقس اليوم الإثنين فى الإسماعيلية.. فيديو    "يريد أكثر من مبابي".. سبب تعقد مفاوضات تجديد فينيسيوس وخطوة ريال مدريد القادمة    الشناوي يتحدث عن صعوبة المنافسة على الدوري.. وتأثير السوشيال ميديا    أنغام فؤاد ومنيب تتألق في صيف الأوبرا 2025 بحضور جماهيري كبير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حب الوطن.. ثنائية الإنسان والمكان
نشر في المصريون يوم 26 - 01 - 2016


غريزة فطرية أم قيمة أخلاقية؟
ارتباط الكائن الحي بالأرض التي يحيا عليها، والبيت الذي يسكن فيه، ليس مجرد أمر وجداني، أو حالة عاطفية طارئة يمكن التغلب عليها، أو مقاومتها، وإنما هو أمر فطري أودعه الخالق -سبحانه وتعالى- في الكائنات الحيَّة حتى من غير الإنسان الذي تجلَّى فيه جانب الوجدان؛ فبعض الأسماك في قاع البحار والمحيطات تسافر مئات الأميال لغرض (بيولوجي)، ثم تعود إلى موطنها الأصلي، وبعض الطيور تهاجر أيضًا لمئات الأميال من موطنها إلى بلاد بعيدة، ثم تعود من حيث أتت إلى موطنها الأول، بل إلى أعشاشها (منازلها) ذاتها لا تخطئها ولا تتعداها.. وإذا كان هذا هو شأن تلك المخلوقات التي توصف غالبًا بضعف الذاكرة إذا قيست بالإنسان؛ فما بالنا بالإنسان الذي يحمل ذكريات مع تفاصيل المكان الذي يحيا فيه، ويرتبط به وجدانيًّا..؟! حتى إذا بعد عن عَيْنِه تلفَّت قلبُه إليه:
وَتَلَفَّتَتْ عَيْنِي فَمُذْ بَعُدَتْ عَنِّي الطُّلُولُ تَلَفَّتَ القَلْبُ
إن الإنسان الحرَّ بسجيته النقية، وفطرته الأبيَّة، يَحنُّ إلى وطنه كما تحن الإبل إلى أوطانها، والطيور إلى أوكارها، ومحبة الأوطان دليل على الشهامة والنُبْل والوفاء. والارتباط بأرض الوطن هو ارتباط الفرع بالأصل، والبعض بالكل، وصدق الله العظيم إذ يقول: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (سورة طه 55) وفي كتب التفاسير (منها) أي من الأرض لا من غيرها (خلقناكم) بخلق آدم -عليه السلام- منها، أو خلقناكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض؛ فكل إنسان هو جزء من أمه وأبيه اللَّذَيْن تكوَّنَا من الأغذية النابتة من الأرض، حتى لو كان ذلك الغذاء متضمَّنًا مصدرًا حيوانيًّا؛ فقد تغذَّى ذلك المصدر على نبات تلك الأرض، وفي النهاية نحن من تلك الأرض التي نعيش عليها، ونرتبط بها ارتباط الابن بأُمّه؛ ولذلك ذهب البعض إلى أن مكوث الإنسان في أرض مدة من الزمان يأكل من نبتها فإنه يصير من أهلها؛ يقول ابن المبارك: (إن من أقام في مدينةٍ أربع سنين فهو من أهلها).
وقد ثبت في صحيح الإمام البخاري عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول للمريض: (بسمِ اللهِ، تُربَةُ أرضِنا، بِريقَةِ بعضِنا، يَشفَى سَقيمُنا، بإذنِ ربِّنا).. فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يرقي مريضًا بلَّ أُصبعه بريقه، ثم وضعه على التراب، ثم مسح به المريض، وذكر ما ورد في الحديث.
والإنسان يمرض إذا فارق وطنه كما مرض الصحابة -رضي الله عنهم- عندما فارقوا مكة إلى المدينة. وهذا أمر معروف ومشهور.
وقد ذكر ابن حجر في الفتح -ما قد يراه البعض غريبًا اليوم- أن لتراب الوطن تأثيرًا على حفظ المزاج وصحة الإنسان؛ فكان المسافر يستصحب معه تراب وطنه، إن عجز عن أن يستصحب ماءه، حتى إذا ورد غير الماء الذي تعوَّدَ أن يشربه، جعل شيئًا من تراب وطنه في سقايته، ويشرب من أعلاها، ليحفظ عنه مضرة الماء الغريب.
فمحبة الأوطان، والانتماء للبلدان، أمرٌ في غريزة الإنسان، وطبيعة طبع الله عليها نفوس البشر، وعندما يولد إنسان في أرض، فيشرب من مائها، ويتنفس من هوائها، ويحيا بين مروجها، ويصاحب أهلها فإنه يرتبط حتما بها، فيشملها بحبه، وتقر محبتها في قلبه. وقد ذكر أبو نعيم في حلية الأولياء أن إبراهيم بن أدهم قال: (ما قاسيت فيما تركت شيئا أشد عليَّ من مفارقة الأوطان).
ولذلك يقول الإمام الغزالي - رحمه الله: (والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص).
الدين أوَّلًا.. ثم لا شيء يعدل الوطن:
وقد عبَّر أمير الشعراء أحمد شوقي عن هذا المعنى الذي ذكره الغزالي عن حب الوطن ولو كان قفرا مستوحشًا في قصيدة بديعة، صوَّر فيها عصفورتين في الحجاز مَرَّ عليهما ريح جاء من اليمن، وعرض عليهما أن يحملهما إلى هناك حيث الماء كاللبن والحَبُّ كالسُّكّر، فكان رد إحدى العصفورتين مفاجئًا له؛ يقول أحمد شوقي:
عُصْفُورَتَانِ فِي الحِجَازِ حَلَّتَا عَلَى فَنَنْ
فِي خَامِلٍ مِنَ الرِّيَاضِ لَا نَدٍ وَلَا حَسَنْ
بَيْنَا هُمَا تَنْتَجِيَانِ سَحَرًا عَلَى الغُصُنْ
مَرَّ عَلَى أيْكِهِمَا ** رِيحٌ سَرَى مِنَ اليَمَنْ
حَيَّا وَقَالَ دُرَّتَانِ فِي وِعَاءٍ مُمْتَهَنْ
لَقَدْ رَأَيْتُ حَوْلَ صَنْعَاءَ وَفِي ظِلِّ عَدَنْ
خَمَائِلاً كَأنَّهَا ** بَقِيَّةٌ مِنْ ذِي يَزَنْ
الحَبُّ فِيهَا سُكَّرٌ ** وَالمَاءُ شَهْدٌ وَلَبَنْ
لَمْ يَرَهَا الطَّيْرُ وَلَمْ يَسْمَعْ بِهَا إلَّا افْتَتَنْ
هَيَّا أرْكَبَا فَنَأتِهَا ** فِي سَاعَةٍ مِنَ الزَّمَنْ
قَالَتْ لَهُ إحْدَاهُمَا ** وَالطَّيْرُ مِنْهُنَّ الفَطِنْ
يَا رِيحُ أنْتَ ابْنُ السَّبِيلِ مَا عَرَفْتَ مَا السَّكَنْ
هَبْ جَنَّةَ الخُلْدِ اليَمَنْ ** لَا شَيْءَ يَعْدِلُ الوَطَنْ
نعم.. لا شيء يعدل الوطن.. كما لا سيِّدة تعدل مكانة الأم، ولا رجلَ يعدل مكانة الأب؛ ولعلَّ البعض يتساءل: أليس أهم شيء لدى الإنسان هو معتقده؛ أي دينه..؟ فهل يكون الوطن مقدَّمًا على الدين..؟ وهذا تساؤل إن بدَا مبرَّرًا، فإنَّهُ بشيء من التدبر يتضح أنه غير منطقي؛ كمن يتساءل هل الهواء أهم للإنسان أم الأرض التي يمشي عليها..؟! إن الدين كالهواء الذي نتنفسه، ودونه نصير مواتًا. أمَّا الوطن فهو كالأرض التي نحيا عليها، بل هو الأرض ذاتها، والديار التي نسكنها، والتراب الذي نلمسه، وكل ما يحتويه من شجر وغيره. وما مر عليه من تاريخ وأحداث كوَّنت ثقافة محددة.. كل ذلك هو الوطن.
نحن نحيا بالدين كما نحيا بالهواء. ونحيا على الأرض وليس بها. وربما دار المتسائل من جهة أخرى؛ فقال: إذا خُيِّر الإنسان بين أن يترك وطنه أو أن يترك دينه؛ فبمَ يُضَحِّي؟!
وهنا ينبغي جلاء الإجابة حتى لا تترك لعابث طريقًا، أو لشيطان سبيلًا، فالإنسانُ يفرُّ بدينِهَ ولا يفرُّ منه. وقد يفرُّ من وطنه ولا يفرُّ بِهِ، وإن ظل قلبه معلَّقًا فيهِ وفيًّا له. الدينُ جزء من الإنسان.. بل هو كل الإنسان (قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالِمَينَ)، والإنسان جزء من الوطن. فلا تخيير بين هذا وذاك. التخيير مُضِلّ، والقياس مُخِلّ، والدين يعلو ولا يُعلَى عليه، دون انتقاص من الوطن، فإن وطنًا بلا دين لا خير فيه. وإن دينًا بلا وطن يظل مستضعفًا وغير مُمَكَّنٍ له، بل مطاردًا من أعاديه.
والمسلم يحب وطنه لينصر دينَه، ويتعلق بوطنه وفاءً وحبًّا مهما اضطرته الظروف، وهو في ذلك يتأسى بنبيه -صلى الله عليه وسلم- فقد هاجر بدينه وهو محبٌّ لبلده ووطنه مكة وإن آذاه أهلها، فإن حجارتها كانت تلقي عليه السلام، ففي صحيح مسلم عن جابر بن أبي سمرة قال صلى الله عليه وسلم: (إنِّي لأعرفُ حجرًا بمكَّةَ كان يسلِّمُ عليَّ قبل أنْ أُبعثَ . إنِّي لأعرفهُ الآن).
الدين يرفع من شأن الوطن:
لقد حفظ الإسلام للوطن قَدْرَه وللديار مكانتها، والديار ما هي إلا موضع في الوطن، فجعل التغريب عنه وعنها عقوبة وتعذيرًا؛ والشواهد على ذلك كثيرة منها تغريب الزاني البكر مع عقوبته عامًا يعيش منفيًّا محرومًا من وطنه، وقد عاقب الله –تعالى- بني إسرائيل بأن جعلهم يتيهون في الأرض أربعين عامًا دون وطن يضمهم ويطمئنون في كنفه؛ قال تعالى: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (سورة المائدة 26). وتأمَّل كيفَ عَطَفَ الله -تعالى- النَّفْيَ من الأوطان على التقتيل والتصليب، في سياق الآية الكريمة: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أو يُصَلَّبُواْ أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أو يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ) (سورة المائدة 33). قال بعض العلماء تعليقًا على هذا الحكم: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانًا وذلًّا. وقد ذكر الحافظ الذهبي طائفةً من محبوبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقال: (كان يحبُّ عائشةَ، ويحبُّ أَبَاهَا، ويحبُّ أسامةَ، ويحب سبطَيْه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أُحُدٍ، ويحب وطنه).
وقد استخدم الكافرون عبر الزمان الحرمان من الوطن والطرد منه وسيلة لحربهم الأنبياء والمرسلين؛ قال تعالى: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (سورة النمل 56). وقال –سبحانه- عن قوم شعيب: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ استكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) (سورة الأعراف 88). وقد أجمع الفقهاء على وجوب الدفاع عن الوطن المسلم إذا هاجمه الكفار، ولا خلاف في ذلك بينهم؛ قال الله –تعالى- عن بني إسرائيل: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا) (سورة البقرة 264). وقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) (الممتحنة 8).
ثنائية الإنسان والمكان:
عندما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة رسخ مفهوم الوطن الذي يضم الديانات المختلفة للمرة الأولى في التاريخ من خلال وثيقة المدينة، إذ نظَّمَت تلك الوثيقة علاقة الجميع مسلمين وغير مسلمين بالمدينة وطنًا ومحل إقامة، يضم المسلمين وغيرهم من اليهود، ومما جاء فيها: (إن يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم‏. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة‏. وإن بينهم النُّصح والنصيحة، والبرَّ دون الإثم‏. وإنه لا يأثم امرؤٌ بحليفه‏. وإن النصر للمظلوم‏. وإن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين‏. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة‏. وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم‏. وإنه لا تُجَارُ قريشٌ ولا مَنْ نَصَرَهَا‏. وإن بينهم النصر على من دهم يثرب‏‏‏.‏ على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلَهُمْ‏‏).
فما الرابطة التي جمعت المسلمين واليهود تحت هذه المبادئ الواحدة التي يلتزم بها الجميع..؟ إنها رابطة الوطن الواحد الذي ينبغي على الجميع الدفاع عنه وإن اختلفت عقائدهم. إنه ارتباط الإنسان بالمكان، ولم يتجاهل الدين الإسلامي تلك الثنائية بل عمل على ترسيخها. وتُعَدُّ وثيقة المدينة أوَّلَ دستور لكيان سياسي تبلور من خلاله مفهوم الوطن الجامع للعقائد المختلفة.
إن العلاقة بين المواطن والوطن؛ بين الإنسان والمكان هي علاقة حميمة متناغمة، تضرب بجذورها في الوِجدان والنفس؛ فالإنسان والمكان كلاهما يحتاج إلى الآخر؛ الإنسان في حاجة إلى مكان يحتويه، يتخذه وطنًا، ويحرص على أن يكون ذلك الوطن قويًّا يقدم له الحماية، ويحفظ له حقوقه كافة. والمكان بحاجة إلى الإنسان (المواطن) ليدافع عنه ويحميه ممن يريده بسوء، وتلك العلاقة بين الإنسان والمكان إذا أُحْسِنَ فهمُهَا وتنميتُها وتأكيدُها اتَّخَذَتْ مسارًا قويمًا، يجعل الإنسان مهمَا كانت توجُّهاته الفكرية مستعدًّا بالفطرة للدفاع عن وطنه.
وإذا كان حبُّ الوطن من العواطف الجياشة التي قد تغلب النفس، وتُغَيِّبُ العقل، مثل جميع العواطف المتغلِّبة، فإن الدين الإسلامي قد جاء ضابطًا للعواطف جميعها؛ محددًا مسارها وتوجيهها؛ فلا يصيبها غُلُوٌّ خطير، ولا يلحقها خذلان أو تقصير.
إن الانتماء عامة، والقدرة عليه، والوفاء بما يتطلبه من إيثار وتضحيات، لا يتسم به إلّا ذوو الهمم العليّة والنفوس الأبيّة، وهو من الالتزام الأخلاقي للفرد والمجتمع؛ وهو من القِيم والمبادئ التي يجب تنشئة الأطفال عليها؛ فالإحساس بالانتماء للمكان يتوقف على ما نغرسه في أطفالنا من مشاعر الألفة والولاء في ظل الأسرة التي هي وطن الطفل الأوَّل؛ ولذلك اهتم الإسلام بها وجعل بِرَّ الوالدين في مقدمة مكارم الأخلاق، بل يلي الإيمان بالله تعالى، وجعل عقوقهما من الكبائر؛ فمن لا يحسن الانتماء لوالديه لن يحسن الانتماء لوطنه.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.