خلال دردشة مع ستيني ألماني، في فرانكفورت خريف 2011 حكي لي الرجل بفخر عن ابنه الأكبر، المهندس الذي يدير مكتب الاستشارات الهندسية المملوك للعائلة، وتكلم بزهو مماثل عن ابنه الأوسط المحامي الواعد، مضيفًا أن نجاحاتهما تعزيه عن فشل ابنه الأصغر. توقعت أن الابن الأصغر هذا مدمن مخدرات أو كحول، ولم أسأل عن التفاصيل تأدباً، غير أن الأب أوضح أن "فشل" ابنه تمثل في دراسته الفلسفة في جامعة "توبنجن". (إحدي أقدم الجامعات الألمانية، والجامعة نفسها التي تخرج فيها هيجل وهولدرلين ومارتن فالزر.) وعندما أخبرته أن ابنه قد يصبح في أهمية نيتشه أو هايدجر، رد: "وهل تظنيني أكترث بشأن هذين الأحمقين؟! الطبيب يعالج المرضي والمهندس يبني البيوت ويخطط المدن، أما الفلاسفة فمجموعة من المتحذلقين غير المفيدين لغيرهم ولا لأنفسهم. الفلسفة بطالة مقنّعة." ملايين ينتشرون شرقاً وغرباً، يشاركون الأب الألماني رؤيته هذه، ويعتبرون الفلسفة فائضة عن الحاجة، والفلاسفة متنطعين منشغلين بأفكار غير عملية محلقة في آفاق بعيدة. ولهؤلاء تحديداً أرشح كتاب آلان دو بوتون "عزاءات الفلسفة.. كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة"، الذي صدرت طبعته العربية مؤخراً عن دار التنوير، بترجمة متميزة للمترجم السوري يزن الحاج. غير أن كتاب بوتون لا ينحصر في كونه رسالة إلي من يتشككون في جدوي الفلسفة في الحياة العملية والواقع اليومي، بل يتعدي هذا إلي تحويل المادة الفلسفية المعقدة إلي قراءة ممتعة ومسلية ومفيدة. أو كما كتبت صحيفة "الإندبندنت": "بوتون أخذ الفلسفة إلي هدفها الأبسط والأهم: مساعدتنا في عيش حيواتنا." يتوقف الكاتب السويسري، المقيم في بريطانيا، أمام ست عزاءات للفلسفة وستة فلاسفة: العزاء بشأن مخالفة الآراء السائدة (سقراط)، العزاء بشأن الافتقار إلي المال (أبيقور)، العزاء بشأن الإحباط (سينيكا)، العزاء بشأن العجز (مونتين)، العزاء بشأن انكسارات القلب (شوبنهاور)، العزاء بشأن الصعوبات (نيتشه). لا يختار المؤلف هؤلاء الفلاسفة اعتباطاً بل وفق منهج حدده في بداية كتابه، إذ يميزهم كجماعة صغيرة من البشر، "تفصل قرون في ما بينهم، يتشاركون ولاء فضفاضاً لرؤية عن الفلسفة يقترحها الأصل اللغوي اليوناني للكلمة – فيلو، حُب؛ صوفيا، حكمة – جماعة يوحدهم اهتمام مشترك بقول عدة أشياء معزية وعملية بشأن القضايا المتعلقة بمواطن بؤسنا الكبري. إلي هؤلاء الناس سوف ألجأ." وإذا كان بوتون يريد من قرائه التعلم من الفلاسفة، فإنه يقدم نفسه باعتباره التلميذ الأول، ويوضح في أكثر من موضع كيف ساعده هذا الفيلسوف أو ذاك علي النظر لحياته والعالم بعيون جديدة، ما يضفي علي الكتاب نزعة ذاتية حميمة. في البداية، مثلاً، يوحي بأن ما لفت نظره إلي سقراط وموته دفاعاً عن أفكاره، هو أن سلوكه الشخصي يتناقض مع هذا. "في الأحاديث كان أولويتي أن أُحَب، لا أن أجهر بالحقيقة (.....) لم أكن أشكك علناً بالأفكار التي تعتنقها الأغلبية. بل كنت أسعي إلي رضي أناس السلطة، وأشعر بقلق كبير، بعد الجدالات معهم، ما إذا كانوا لا يزالون يعتبرونني مقبولاً." كما يبدو بوتون كأنما يحاول السير علي خطي سينيكا الذي "كان قد أدرك منذ البداية أن الفلسفة منهج تعليمي يساعد البشر علي تجاوز التباينات بين أمنياتهم والواقع." ويسترشد، في منهجه بالكتابة، بخلاصة رؤية مونتين الخاصة بأن ما يهم في الكتاب هو النفع والملاءمة في ما يخص الحياة. وهكذا، بين سطور الكتاب سنكتشف دلائل كثيرة علي كيف استفاد آلان دو بوتون نفسه من الفلسفة، لكن ماذا عن قرائه المحتملين؟! كيف يمكن أن تعزيهم الفلسفة وتساعدهم في حياتهم؟! هذا ما علي هؤلاء القراء اكتشافه بأنفسهم عبر قراءة هذا الكتاب الممتع الذي جرؤ مؤلفه علي تحويل فلاسفة مرموقين إلي مرشدين روحيين أو مدربي تنمية ذاتية بثقافة عالية ورؤي مبتكرة، أو لو شئتم، إلي حكماء علي الطريقة القديمة ممن يلجأ إليهم المريدون لسؤالهم عن حل للمعضلات الحياتية أو كيفية التصرف في موقف معين. لا يهم أن دو بوتون وهو يفعل هذا، قد يخون هؤلاء الفلاسفة (أو بعضهم علي الأقل) لصالح التبشير بهم وبأفكارهم بين جمهور أوسع، فشوبنهاور مثلاً يفضل العصامية الفكرية، ويري أن تفكير المرء بنفسه والوصول إلي خلاصاته الخاصة أفضل مئات المرات من أن يستقي معرفته عبر القراءة. لكن ببراجماتية تماثل تلك الخاصة بآلان دو بوتون، أقول ربما يمثل كتابه الشائق هذا عتبة أولي قد تغري قراءً عديدين بالتعمق أكثر في قراءة الفلسفة، حتي ولو بهدف أخذ العبرة والعظة من سير وأفكار كبار الفلاسفة. وأخيراً، تبقي الإشادة ضرورية بترجمة يزن الحاج المميزة، التي تذكِّر بالمترجمين الكبار من أجيال سابقة. فإضافة إلي لغته الرصينة المحكمة، نلمس دقته في تصويب وتدقيق معلومات وإحالات سها المؤلف عن تدقيقها.