شهد الأسبوع الماضي حدثين مهمين؛ أحدهما مُفرِح، والآخر مُحزِن، الأول هو الاحتفال بالذكري الأولي لافتتاح مشروع قناة السويس الجديدة، أما الثاني فهو وفاة العالم المصري الكبير الدكتور أحمد زويل، الحاصل علي جائزة »نوبل» في الكيمياء. قد يبدو للوهلة الأولي أنه لا علاقة بين الحدثين، إلا أن الحقيقة أن بينهما علاقة كبيرة من الزاوية الاجتماعية، وهي فكرة الإنجاز. فالدكتور زويل هو رمز للإنسان المصري المكافح، الذي حقق إنجازًا علميًا شهد به العالم، حيث قام باختراع ميكروسكوب يقوم بتصوير أشعة الليزر في زمن مقداره »فيمتوثانية». وقناة السويس هي رمز للإنجاز المصري عبر التاريخ، حيث تشهد علي قدرة وعظمة الإنسان المصري الذي شق بسواعده الأرض ليصل بين البحرين، محققًا نقلة كبري في حركة السفن بين الشرق والغرب، استطاعت معها أن تختصر الرحلات التي كانت تستغرق أشهر إلي أسابيع، ثم كرر المصريون الإنجاز مرة أخري بحفر قناة السويس الجديدة. من هنا كان الرابط بين »زويل» و»القناة»، وهو الإنجاز، الأمر الذي نحتاج إليه بشدة نحن المصريين الآن، وربما أكثر من أي وقت مضي، إذ أننا بحاجة لأن نشعر بقيمة وطعم النجاح؛ فالأمم تقيس قوتها بعدد الإنجازات التي يحققها رجالها، ابتداءً من مجال العلوم (جائزة نوبل وغيرها)، وحتي مجال الرياضة؛ مثل الأوليمبياد (عدد الميداليات التي تحققها كل دولة). لذلك نحن شديدو التمسك ب »زويل» وب »حفر القناة»، لأننا بحاجة إلي مزيد من الإنجازات، لكي نضع أنفسنا علي خريطة الأمل للمستقبل، ويدفعنا دفعًا إلي المكانة اللائقة بين الأمم والشعوب، ولن يتحقق هذا إلا عندما ندرك أهمية وقيمة الإنجاز، كي نصير أمة منتجة، وليس أمة مستهلكة، تعتمد علي ما ينتجه الآخرون حتي في أبسط متطلبات الحياة كالغذاء والدواء. لكن لابد أن نواجه أنفسنا بالحقيقة، بأنه علي الرغم من أن الله وضع في المصريين جينات القدرة علي الإنجاز، إلا أننا نحتاج إلي أعداد كبيرة من شبابها يحققون إنجازات في المجالات المختلفة، مهما كانت بسيطة، لأن الإنجاز يرفع الروح المعنوية، ويرفع سقف الأحلام لدي الناس. ثقافة الإنجاز في القرآن وإذا تتبّعنا آيات القرآن الكريم، فسنجد أنها تشير إلي الإنجاز دون أي شَيْءٍ آخر كما في قوله تعالي »الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ»، والمعلوم أن من يحسن العمل ويتقنه هو إنسان متميز يستطيع تحقيق الإنجازات. والله لم يمدح الأنبياء في القرآن، إلا بإنجازاتهم فلا يذكر نبيًا إلا بالإنجاز العظيم الذي حققه؛ فإبراهيم – أبو الأنبياء – إنجازه في بناء الكعبة، فقال تعالي »وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي»، كنوع من التذكير الدائم بأن الله لا ينسي الإنجاز وأن هذا الإنجاز سر تكريم الله لإبراهيم. وهذا نبي الله يوسف كان إنجازه »البراعة في إدارة الأزمات»، إن كان علي صعيد أزمته مع »إخوته» الذين حقدوا عليه ورموه في البئر، أو مع »امرأة العزيز»، التي راودتها عن نفسه فاستعصم، أو في مواجهة أزمة المجاعة التي ضربت مصر، فاستطاع بفضل امتلاكه لأدوات الإدارة والقيادة أن ينجي البلاد والعباد.. »قَالَ اجْعَلْنِي عَلَي خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»، فقال عنه ربنا: »وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ، وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ». كما أن ابنة نبي الله شُعيب عندما جاءت إلي سيدنا موسي علي استحياءٍ لتنقل له دعوة أبيها، أو عندما اقترحت علي أبيها أن يستأجره، إنما انتبهت إلي إنجازه عندما سقي لهما فأحسنت التقييم.. »قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ». وسيدنا محمد الذي قال عنه الله تعالي » وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»، إنجازه يراه العالم عبر التاريخ والأجيال، وقد قال عنه المؤرخ »ول ديورانت»: »وإذا ما حكمنا علي العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا إن محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ علي نفسه أن يرفع المستوي الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو، وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقلَّ أن تجد إنسانًا غيره حقق كل ما كان يحلم به». المصريون وصنع الإنجازات ولا نبالغ إذا قلنا إن المصريين لديهم ميزة عبر التاريخ، وهي القدرة علي الإنجاز، فمتي ما رغبوا في تحقيق الإنجاز، فإنهم يحققونه بلا تباطؤ أو تأخير، والتاريخ شاهد علي ذلك، إلا أن إنجازاتنا خلال الفترة الأخيرة قليلة مقارنة بقدراتنا التي تؤهلنا لتحقيق إنجازات كبري. لكن المشكلة أننا نركز علي الأسماء اللامعة التي حفرت أسماءها عالميًا، مثل الدكتور أحمد زويل، والدكتور مجدي يعقوب، علي الرغم من أن هناك مصريين مميزين نجحوا في مجالات متنوعة عبر العالم، إلا أننا نختزل الإنجازات التي حققها المصريون في أسماء قليلة. ولابد أن نتعلم من القرآن النزول بثقافة الإنجاز إلي جميع فئات وطبقات المجتمع، وأنه ليس كما يظن البعض مقصورًا علي العلماء الكبار وحسب، فقد ضرب لنا المثل، عندما سمي سورة »النمل»، وسورة »النحل»، كي يعلمنا ألا نستهين بأي إنجاز مهما كان بسيطًا، لأن قصر الإنجازات علي المستويات العالية جدًا، يضعف قدرة باقي أفراد الأمة علي تحقيق أي إنجازات. هذه هي الثقافة التي يجب أن ننشرها بين الناس، إذ إنه لابد من تغيير النظرة القائمة علي فكرة أن الإنجاز يرتبط بالعلماء الكبار اللامعين الحاصلين علي جوائز كبري وحدهم، وذلك من خلال تبسيطها إلي مستويات أقل، وهذا هو الذي يصنع الفارق. فعلي سبيل المثال، قد يحقق شاب في المرحلة الثانوية، إنجازًا علي قدر مستواه، أو مهندس حديث التخرج، أو محاسب، أو إمام مسجد، كل في مجاله إنجازًا علي قدر مستواه، لكن الأزمة أننا نصعب الإنجاز، فربطناه بجائزة »نوبل» والعالمية، ولو أننا بسطنا الإنجاز لزاد عدد المنجزين، وانتشرت ثقافة الإنجاز بين الناس. فالله تعالي جعل في الأرض، خليفة ليحقق الإنجاز »وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، هذا الخليفة الذي مهمته إعمار الأرض، لابد أن يكون بالضرورة إنسانًا منتجًا، يعمل بكل طاقته في مجالات العمل المختلفة.. زراعة.. صناعة.. وتكنولوجيا، ليصنع الإنجازات الحضارية الكبري، التي تجعل حركة الحياة أكثر سهولة وراحة.